ما جاء في نزولها وفضلها:
وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها، وما جاء فيها.
سورة البقرة مدنية، نزلت في مدد شتى وقيل هي أول سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) فإنه آخر آية نزلت من السماء يوم النحر في حجة الوداع بمنى.
وسورة البقرة فضلها عظيم وثوابها جسيم، ويقال لها فسطاط القرآن وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها، وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في أثنتي عشرة سنة وابنه عبد الله في ثماني سنين، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا وقال له: اذهب فأنت أميرهم[1]، وقال صلى الله عليه وسلم “اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة” ي[2]عني السحرة، وقال صلى الله عليه وسلم “ولا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر أو يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة” [3]وقال صلى الله عليه وسلم “إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيه ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرآها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام”.[4]
وحكى أن لبيد بن ربية وهو من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن اسلامه ترك قول الشعر في الإسلام، وسأله عمر بن الخطاب عن شعره وطلب منه أن ينشد فقرأ سورة البقرة، فقال له عمر إنما سألتك عن شعرك، فقال لبيد: ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران فأعجب عمر بن الخطاب قوله.
فتبدأ السورة بقول الله تعالى: ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ )اختلف أهل التفسير في الحروف التي في أوائل السور.
1 – فقال جماعة منهم: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر فهي من المشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجوز أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت، وروى هذا القول عن ابي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعا.
2 – وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروى عن بعضهم أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، وروى عن بعضهم انها إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن انه مؤلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه ابلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم، لأنهم كانوا ينفردون عند استماع القرآن، فلما سمعوا (ألم) و(المص) استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم اقبل عليهم بالقرآن ليثبته في أسماعهم وآدابهم ويتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) يعني هذا القرآن المجموع المكتوب، والإشارة بذلك إلى ما قد نزل من القرآن في مكة لان سورة البقرة مدنية، وقيل إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مترقبا لإنجاز هذا الوعد من ربه عزل وجل، فلما نزل عليه بالمدينة (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) كان فيه معنى، هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة هو ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحي إليك بمكة.
(لَا رَيْبَ فِيهِ..)
الريب له ثلاثة معان: الأول: الشك، الثاني: التهمة، الثالثة: الحاجة، فكتاب الله تعالى لا شك فيه وانه في ذاته حق وانه نزل من عند الله غير مخلق ولا محدث.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)..
الهدى هديان: هدى دلالة وهو الذي نقدر عليه الرسل واتباعهم، قال الله تعالى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) وقال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فأثبت الله لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد الله سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (إنك لا تهدي من أحببت) فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومن قوله تعالى (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقوله (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي هداية توفيق وتأييد، والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى للمتقين، خص الله تعالى المتقين بهدايته، وإن كان القرآن هدى للخلق أجمعين ولكن سبحانه خص المتقين بالذكر تشريفا لهم لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه.
والتقوى في أصل اللغة: قلة الكلام ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “التقي ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع” والمتقي هو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجله حاجزا بينك وبينه.
والمتقون هم الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات، وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال فما عملت فيه؟ قالك تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى، وأخذ هذا المعنى أحد الشعراء فنظمه بقوله:
| خل الذنوب صغيرها |
وكبيرها ذات التقي |
|
| واصنع كماش فوق |
ارض الشوك يحذر ما يرى |
|
| لا تحقرن صغيرة |
إن الجبال من الحصى |
والتقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين وهي خير ما يستفيده الإنسان كما قال أبو الدرداء رض الله عنه وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وانت ما حفظ عنك شيء فقال:
| يريد المرء أن يؤتي مناه |
ويأبى الله إلا ما أرادا |
|
| يقول المرء فائدتي ومالي |
وتقوى الله أفضل ما استفادا |
[1] – أخرجه الترمذي (2876).
[2] – صحيح مسلم( 804).
[3] – صحيح مسلم ( 780).
[4] – سنن الدارمى ( 3377).


