قوله (ألم تر) هذا الاستفهام للتعجب من أحوال اليهود يعني ألم تر يا محمد عجبا من فعل هؤلاء وسبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله، فقال له أثنان منهم: على أي دين انت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه، فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال الرسول لهما: إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبوا عليه.
قوله (إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) أوتوا، أعطوا العلم والراجح أنهم اليهود، وقوله (نصيبا) النصيب يعني حظا أو شيئا من علم الكتاب والمقصود بالكتاب هنا هو التوراة والمراد: أعطوا بعض العلم من كتابهم ولا يعلمون من كتابهم إلا حظا يسيرا منه.
قوله (يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) قال كثير من المفسرين أن المقصود بكتاب الله هو القرآن دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم بينهم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فأبوا الاحتكام إلى القرآن، وقال بعض المفسرين ومن بينهم الطبري أن المقصود بكتاب الله هو التوراة، ولذلك يقول الطبري في تفسيره: وأولى الأقوال في تفسير ذلك عندي بالصواب، أن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا في المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة وتلك الطائفة ممن أوتى علما بالتوراة أنهم دعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرون انه من عند الله، وهو في التوراة في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه، وقد يكون تنازعهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون تنازعهم في أمر إبراهيم خليل الرحمن ودينه، ويجوز أن يكون تنازعهم بسبب دعوتهم إلى الدخول في الإسلام والاقرار به، ويجوز أن يكون ذلك في حد من حدود الله، فإن كل ذلك محتمل فدعاهم الرسول إلى حكم التوراة والرجوع إلى التوراة كان فرضا عليهم للإجابة على الرسول، فامتنعوا منه فأخبر الله تعالى عنهم بردتهم وتكذيبهم بما في كتابهم وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم بإقامة التوراة والعمل بها.
قوله (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) أي ثم يستدبر جماعة منهم عن كتاب الله الذي دعا – سبحانه – إلى حكمه معرضا عنه منصرفا وهو بحقيقته وحجته عالم، ويقول الطبري وإنما قلنا: أن ذلك الكتاب هو التوراة لأن اليهود كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة – بزعمهم – مصدقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هو به في زعمهم مقرون أبلغ، وللغدر أقطع، لأنهم بذلك يكذبون نبيهم موسى عليه السلام وهم يتلون التوراة ويقرون بها.

