تأتي هذه الآية الكريمة وما بعدها من آيات في خواتيم سورة آل عمران تدعو الناس جميعا إلى التدبر والاعتبار في خلق الله، وفي هذه الآية رد على اليهود الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، فبين سبحانه وتعالى في هذه الآية بأنه المدبر المصرف الأشياء والمسخر ما أحب، وأن الإغناء والافقار إليه وبيده، فتدبروا أيها الناس واعتبروا فيما أنشأه سبحانه فخلق من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم وفيما يتعاقب عليكم من الليل والنهار، فتتصرفون في النهار لمعاشكم، وتسكنون في الليل راحة لأجسادكم وفي كل هذا اعتبار وتذكير وآيات وعظات فمن كان منكم ذا لب وعقل، يعلم أن من نسب الله إلى أنه فقير وهو سبحانه غنى، إنما هو كاذب مفتر على الله، فإن ذلك كله بيده سبحانه، يقلبه ويصرفه، ولو أبطل ذلك لهلكتم، فكيف ينسب فقر إلى من كان كل ما به عيش ما في السموات والأرض بيده وإليه، أم كيف يكون غنيا من كان رزقه بيد غيره إذا شاء رزقه، وإذا شاء حرمه، فاعتبروا يا أولي العقول.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك مبينا أوصاف ذوي العقول الراجحة المؤمنة به (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
(ِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) يعني إن ذوي الألباب والعقول لا ينفكون في ذكر الله بألسنتهم أو في بالهم في جميع أحوالهم في قيامهم وقعودهم وفي مضاجعهم حينما يضعون جنوبهم استعدادا للنوم، وبعد استيقاظهم وقبل قيامهم من مضاجعهم وهذه هي حالاتك يا بن آدم في هذه الدنيا قيام وقعود واضطجاع، فاذكر الله في جميع حالاتك وقيل: قياما في الصلاة، وقعودا في التشهد، وفي غير الصلاة كذلك، وعلى جنوبهم كذلك.
وقوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني يعتبرون بصنعة صانع ذلك سبحانه فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه وخالق كل شيء ومدبره ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار والإعزاز والإذلال والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة.
وقوله تعالى (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) معناه أن ذوي الألباب في أثناء تفكرهم في خلق الله فحالهم ولسانهم يقول يا ربنا لم تخلق هذا الخلق عبثا ولا لعبا، ولم يخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة وفيهم منه كما قال الطبري في تفسيره أن المراد الخلق الذي في السموات والأرض، بدليل قوله (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) يعني مرد هؤلاء الخلق الذين في الأرض والسموات مردهم إلى خالقهم، فيثيبهم أو يعاقبهم على أمره أو نهيه، فأولوا العقول نزهوا الله بقولهم سبحانك ثم قالوا ما خلقت الذين في السموات والأرض عبثا ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر لجنة أو نار، ثم فزعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار وألا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره فيكونوا من أهل جهنم.

