هذه الآية الكريمة تتحدث عن المنافقين الذين كشفهم الله تعالى في موقعة أحد، وقوله (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا) والمعنى وليعلم الله الذين قالوا وهم المنافقون لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين يوم أحد فقتلوا هناك من عشائرهم وقومهم، وقدر هؤلاء المنافقون وقوله (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) يعني قال هؤلاء المنافقون لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا ما قتلوا هنالك في احد، وقوله (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) يعني قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا هذا القول فادرؤوا يعني فادفعوا عن أنفسكم الموت، فأنتم لا محالة ميتون فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا إن كنتم صادقين في قولكم، (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا).
ثم قال الله تعالى بعد ذلك (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
في هاتين الآيتين الكريمتين يواسي الله المؤمنين ويطيب قلوبهم بذكر مآل الذين قتلوا في أحد، وفيهما كذلك رد على المنافقين الذين قالوا لإخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا بأن الموت آت لا محاله للقاعدين والمجاهدين ولكن الفارق أن موت المجاهدين حياة وفرح وفضل وأمن وبشر عند ربهم.
قوله سبحانه (وَلَا تَحْسَبَنَّ) أي لا تطنن يا محمد صلى الله عليه وسلم وقوله (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعني الذين قتلوا في موقعة أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنهم يا محمد أمواتا لا يحسون شيئا ولا يتنعمون فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي ووهبتهم من جزيل ثوابي وعطائي، وهاتان الآيتان عامتان في كل من قاتل في سبيل الله واستشهد، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما أصيبت إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقامهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا: لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتنكلوا عن الحرب يعني “يرجعوا عن الجهاد” فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات[1]، وقوله عز وجل (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني أن هؤلاء الشهداء فرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على منهج الله من جهاد أعداء الله ورسوله لعلمهم بأنهم أن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله واأقنوا برضاه عنهم فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها لقوله تعالى بعد ذلك (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) يعوضهم ما في الدنيا كلها، وقوله (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله سبحانه.
[1] – أخرجه أبو داود (2520)، وأحمد (2388).

