قيل أن هذه الآية الكريمة لها صلة بالآية التي سبقتها وهي قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
ومعنى ذلك أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول مثل من رجع بغضب من الله بأخذ الغلول وسبقت هذه الآية سياق الاستفهام الإنكاري لعدم الاستواء يعني لا يستوون وقيل إن هذه الآية عامة في كل من اتبع رضوان الله والاتباع هنا معناه التطلب أي يطلب بأفعاله رضا الله تعالى ويتبع مواطن رضا الله تعالى لكي يحصلها ويقتنيها وفي هذه الآية على تحصيل كل ما يؤدي إلى رضا الله تعالى، وقوله (كمن باء بسخط من الله) يعني مثل من رجع بغضب من الله، وهذا تمثيل لحال صاحب المعاصي الذي خرج بطلب النفع الدنيوي غير آبه برضوان الله فرجع بما يضره أو رجع بالخيبة وغضب الله تعالى، وفي هذا الاستفهام للمقابلة يعلم حال أهل الطاعة وحال أهل المعصية أو أهل الإيمان وأهل الكفر، وقوله (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يعني أن هذا الذي رجع بغضب من الله مستقره ومثواه جهنم وبئس ما صار إليه وهو نار جهنم.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) هذه الآية الكريمة تبين أن من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله، الكرامة والثواب الجزيل ولمن باء بسخط من الله المهانة والعذاب الأليم، ولكل طبقات مما عملوا في الجنة والنار، وإن الله سبحانه لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
قوله (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) المن معناه التفضيل والتطاول بالنعم الكثيرة وهو مأخوذ من المن الذي هو من الأوزان الكبيرة والثقيلة، وكلمة “منه” تستعمل دائما في النعم التي تغير حياة الإنسان من حال إلى حال، وكلمة “النعمة” تستعمل عادة في ما يطلبه الإنسان في الرزق والكسب، فالمنة أكبر النعم الإلهية، ولا شك أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر النعم على الإنسانية جمعاء وعلى العرب خاصة إذ نقلهم من الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى، والفعل “من” إذا كان من الله فهو مستحسن لأنه سبحانه عنده ملكوت السموات والأرض وهو المتفضل على من خلقهم، أما إذا كان من إنسان إلى إنسان فهو مذموم لأن فيه معايرة وتكبراً واستصغارا لمن من عليه بالقول والتشهير أما بالفعل من غير قول فهو حسن.
ولهذه الآية صلة بما حصل في يوم أحد ففيها تعزية وتسلية للتساؤل الذي دار في بعض أذهان بعض حديثي العهد بالإسلام بعد أحد وهو لماذا لحق بنا ما لحق ولماذا أصبنا بما أصبنا فيذكرهم الله أن عليكم أن لا تنسوا أن الله أنعم عليكم بأكبر نعمة وهي بعثة نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم وينقذكم من الضلالة إلى الهدى وقوله (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني من أهل لسانهم حتى يفقهوا قوله، وقوله (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ) يعني يقرأ عليهم أدلة كتابه وتنزيله (وَيُزَكِّيهِمْ) يعني يطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وقوله (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني يعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ومعانيه، ومعنى الحكمة السنة التي سنها الله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) يعني كانوا من قبل ان يمن الله عليهم ببعث النبي في جهالة وفي حيرة وعمى لا يعرفون حقا ولا يبطلون باطلا ومبين يعني واضح من تصرفاتهم أنهم على غير استقامة أو هدى.

