ثم قال تعالى بعد ذلك (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

قوله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) هذه الصفة خصها كثير من المفسرين باليهود فقط، ومعنى ضربت عليهم الذلة أي أنهم أحاطت بهم الذلة من جميع الجوانب مثلما تحيط القبة أو الخيمة بمن يجلس فيها باتصالها وثباتها وشد أطنابها فالذلة ملتصقة ومتصلة بهم لا ينفكون عنها (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) ثقف أخذ وتستعمل في الحروب مثل قوله تعالى (فإما تثقفنهم في الحرب) أي تأسرهم وتأخذهم أخذ التمكن منهم والمعنى أن الذلة مضروبة عليهم أينما وجدوا في بقاع الأرض وقوله (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) الحبل معناه العهد والمعنى أنهم لا يسلمون من الذلة إلا إذا تلبسوا بعهد من الله وأصبحوا في ذمة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد وأما هم في أنفسهم فلا نصر لهم، وهذا من دلائل النبوة فإن اليهود كانوا أعزة بيثرب وخيبر والنضير وقريظة فاصبحوا اذلة وعمتهم المذلة في سائر أقطار الدنيا، قوله (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) أي صاروا من المغضوب عليهم من الله، قوله (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) المسكنة هي الفقر الشديد مع قلة الحياء في العيش، وكما ضربت عليهم الذلة ضربت عليهم المسكنة وقدرت عليهم حينما أخذت منازلهم في خيبر والنضير ثم بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر بن الخطاب، وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي كل ذلك بسبب جحودهم ادلة الله على صدق أنبيائه وبسبب قتلهم أنبياءهم ورسل الله وترتب على ذلك عصيانهم لله وعدوانهم على أنبيائهم.

يقول الله تعالى في سورة آل عمران (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

في هذه الآية إنصاف لفريق وجماعة من أهل الكتاب، قوله تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً) يعني ليس فريقا أهل الكتاب أهل الإيمان منهم وأهل الكفر متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد والخير والشر، وإنما قيل: ليسوا سواء لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) ثم أخبر سبحانه عن حال الفريقين عنده المؤمنون منهم والكافرون فقال (لَيْسُوا سَوَاءً)، أي ليس هؤلاء سواء المؤمنون منهم والكافرون، ثم ابتدأ سبحانه يخبر عن صفة الفريق المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم وأثنى عليهم بعدما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به بقوله في الآية السابقة (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)، وقوله (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ) يعني جماعة ثابتة على الحق، وقوله (قَائِمَةٌ) مستقيمة على الهدى بالعدل والطاعة.

وقوله (يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ) يعني يقرؤون كتاب الله وما فيه من العبر والمواعظ (آَنَاءَ اللَّيْلِ) يعني في ساعات الليل، فيتدبرون ويتفكرون فيه، وقوله (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قال بعض المفسرين المقصود بالسجود الصلاة لأن فيها القراءة ورجح الطبري أن المعنى أنهم يقرؤون كتاب الله أثناء صلاتهم وهم مع ذلك يسجدون فيها، فالسجود هو السجود المعروف في الصلاة.

Scroll to Top