في هذه الآية الكريمة فقرتان، فقرة تتعلق بأمة الإسلام، والفقرة الأخرى متعلقة بأهل الكتاب أما الفقرة الأولى فهي قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) بالخطاب في قوله (كُنْتُمْ) إما لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، قال عمر رضي الله عنه هذه لأولنا ولا تكون لآخرنا والمراد بالأمة الجماعة وأهل العصر النبوي، مثل كلمة قرن ومنه قوله تعالى في سورة يوسف (واذكر بعد أمة) أي بعد مدة طويلة، ولا شك أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم لأن رسولهم صلى الله عليه وسلم افضل الرسل، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها قال النبي صلى الله عليه وسلم “خير القرون قرني” [1]يعني خير العصور عصري، وإن أخذت الأمة من غير الرسول صلى الله عليه وسلم فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رسلها وفي هذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وإما أن يكون الخطاب في قوله (كُنْتُمْ) للمسلمين كلهم في كل جيل ظهروا فيه ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع افراد الأمة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة عليه، فمن التغيير على الأهل والولد إلى التغيير على جميع أهل البلد وفي هذا ضمان من الله تعالى بأن ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى وفعل (كان) يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى لكنه لا يدل على الاستمرار ولا يدل كذلك على الانقطاع مثل قوله تعالى (وكان الله غفورا رحيما) أي وما زال الله غفورا رحيما، فمعنى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أي وجدتم على حال الخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، فأنتم خير أمة في كل عصر ما دام فيكم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وما دمتم مؤمنين بالله، قوله (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الإخراج هنا معنوي وليس حسيا والمقصود الإظهار بصيغة جديدة ومن الإخراج الحسى قوله تعالى (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار).
وأمة الإسلام برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أخرجت بمنهج الإسلام إخراجا جديدا بعد الهداية من الضلال والتوحيد بعد الشرك والأخوة بعد العداوة، وقوله (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) يعني تأمرون بالإيمان بالله ورسوله والعمل بشرائعه وقوله (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) يعني تنهون عن الشرك بالله وتكذيب رسوله وعن ما نهى الله عنه من أعمال، وقوله (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي تصدقون بما جاء به الرسول من الله وهذه هي العماد والاساس وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صياغة الآية قبل الإيمان بالله لإشعار هذه الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الوقود والإسناد والمظهر لإيمان المؤمن بالله تعالى، أما الفقرة الأخرى من هذه الآية فهي قوله تعالى (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) يعني ولو صدق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم. وقوله (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) يعني من أهل الكتاب مؤمنون مصدقون برسول الله وهم قلة منهم عبد الله بن سلام وأخوه وثعلبة بن سعيد وأخوه (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) يعني الخارجون عن دينهم لأن من دين اليهود اتباع التوراة وما جاء فيها من تصديق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل وما جاء فيه من تصديق الرسول ومن صفته ومبعثه وأنه نبي الله ولكن أكثرهم مكذبون فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم.
[1] -أخرجه البخارى (6695).

