معنى هذه الآية إجمالا كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وإسرائيل هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله عليهم السلام، وقد ورد عند كثير من المفسرين أن يعقوب عليه السلام أصابه عرق النسا فكان لا ينام الليل من الوجع فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا، وكان ذلك قبل نزول التوراة على موسى عليه السلام واتبع يعقوب في ذلك أبناؤه وفي رواية أخرى أن يعقوب حلف ألا يأكل العروق ولا لحوم الإبل ولا يشرب من ألبانها، وكانت لحوم الإبل وألبانها أحب شيء إلى يعقوب فلما أصابه عرق النسا حلف ألا يأكل العروق ولا لحوم الإبل ولا يشرب من ألبانها.
ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود قائلا: ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه، قالوا نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل “يعقوب” على نفسه، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعني قل يا محمد للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروق ولحوم الأبل وألبانها قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم أن ذلك ليس مما أنزل الله في التوراة، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعني إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل تحريم ذلك في التوراة، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذب اليهود على الله وجعل ذلك حجة لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم إذ كان ذلك يخفى على كثير من أهل ملتهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب وهو من غير ملّتهم لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده كان أحرى ألا يعلمه فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم، لأن ذلك من أخبار أوائلهم.
ثم قال الله بعد ذلك (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، يعني فمن كذب على الله منا ومنكم من بعد مجيئكم التوراة وتلاوتكم إياها، ومعنى افترى أي اصطنع الكذب من الفرى وهو تقطيع الجلد وفريه لصناعة قربة أو لباس أو حذاء ثم أصبح رديفا للكذب، فيسمى المفتري كذابا، وقوله (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يعني فهم الكافرون القائلون على الله الباطل.
ثم قال تعالى (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني قل يا محمد لليهود صدق الله فيما أبرَّنا به في قوله (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وفي كل ما أخبر به سبحانه عباده من أخبار، قوله (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني فإن كنتم أيها اليهود محقين في دعواكم أنكم على الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله فاتبعوا ملة إبراهيم خليل الله عليه السلام فإنكم تعلمون أنه الذي ارتضاه الله من خلقه دينا وابعث به أنبياءه وحنيفا أي مستقيما على الإسلام وشرائعه، وقوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني لم يكن إبراهيم عليه السلام يشرك في عبادته لله أحدا من خلقه، فإن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام كان دينه إخلاص لعبادة ربه وحده ولم يكن مشركا كما أشركتم أنتم أيها اليهود والنصارى، وأنتم تقرُّون بأن إبراهيم كان على حق وهدى مستقيم فاتبعوا ما قد أجمع جميعكم على تصويه من ملته الحنفية المستقيمة.

