يقول الله تعالى في سورة آل عمران: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

يخبر الله جل وعلا في هذه الآية لرسوله وللمؤمنين عن صنف من أخلاق أهل الكتاب، وهم اليهود الذين كانوا حول المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ) يعني وإن من أهل الكتاب، قوله (لفريقًا) يعني جماعة منهم، وقوله (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) يعني يحرفون ويقلبون من قول القائل لوى فلان يد فلان إذا فَتلها وقَلبها. وقوله: (بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) يحرفون الكتاب الذي هو التوراة، لتظنوا أنّ الذي يحرفونه لكلامهم من كتاب الله وتنزيله. قوله: (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) يعني وما ذلك الذي حرفوه وقلبوه من كتاب الله. قوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني ويزعمون كذلك أنّ ما حرفوه بألسنتهم من الكذب والباطل مما أنزله الله على أنبيائه، وما ذلك مما أنزله إلى أحد من أنبيائه ولكنه مما أحدثوه من قبل أنفسهم افتراء وكذباً على الله. قوله: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعني: أنهم يتعمدون قول الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل والإلحاق بكتاب الله ما ليس منه وهم يدرون ويدركون ويفعلون ذلك تعمداً طلباً للرياسة والخسيس من حطام الدنيا.

وفي هذه الآية كذلك تحذير غير مباشر للمسلمين أن يفعلوا مثل فعل هذه الجماعة من اليهود.

ثم قال الله تعالى بعد ذلك: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).

قوله: (مَا كَانَ) معناه ما ينبغي لأحد من البشر، ومنه قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ). وقوله: (ما كان لله أن يتخذ من ولد). وقوله: (ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) بمعنى ما ينبغي لأحد من البشر والبشر جمع لبني آدم مثل القوم والخلق. وقوله: (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ) يعني أن ينزل الله عليه كتابه وقوله (وَالْحُكْمَ) يعني العلم والفهم والحكمة. وقوله: (والنبوة) يعني ويعطيه النبوة. قوله: (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) يعني ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله وقد أعطاه الله ما أعطاه من الكتاب والحكم والنبوة. قوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) يعني ولكن يقول للناس كونوا ربانيين، الربانيون جمع رباني وهو الذي يرب الناس وهو الذي يصلح أمورهم ويقوم بها ومنه أخذ ربان السفينة أو ربان السفينة، فالربانيون هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا والتدبير والقيام بأمور الناس وما يصلحهم في دينهم ودنياهم. قوله: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) وفي قراءة (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) والأولى بما كنتم تعلمون لأنهم ما علموه حتى علموه. وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) يعني تلاوة القرآن والعناية به، والمعنى ولكن يقول لهم كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام وفرض وندب وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم وبتلاوته ودراسته، ثم قال الله تعالى بعد ذلك: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعني ولا ينبغي للنبي كذلك أن يأمر الناس أن يتخذوا الملائكة والنبيين آلهة يعبدون من دون الله، ثم نفى سبحانه عن نبيه أن يأمر عباده بذلك عن طريق الإنكار والتعجب بقوله أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون، يعني يأمركم بجحود وحدانية الله بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة متذللون لله بالعبودية أي: إنّ ذلك غير كائن منه أبداً.

Scroll to Top