هذه الآية الكريمة خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا: (رَبَّنَا آَمَنَّا) أي صدقنا بما أنزلت يعني بما أنزلت على نبيك عيسى من كتابك (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) يعني صرنا أتباع عيسى، على دينك الذي ابتعثته به، وصرنا أعوانه على الحق الذي أرسلته به إلى عبادك.
قوله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) يعني فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقروا لك بالتوحيد، وصدقوا رسلك واتبعوا أمرك ونهيك، فأجعلنا في عدادهم ومعهم.
يقول الطبري في تفسيره: وفي هذه الآية يعرف الله جل جلاله خلقه سبيل الذين رضي الله أقوالهم وأفعالهم ليسيروا على طريقهم ويتبعوا منهاجهم وهذه الآية أيضا حجة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد من أهل نجران الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قول ومنهج من رضي الله عنهم من أتباع عيسى يخالف قول ومنهج وفد نجران في عيسى عليه السلام.
ثم قال تعالى بعد ذلك: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
قوله: (وَمَكَرُوا) يعني كفار بني إسرائيل الذين أحسّ عيسى منهم الكفر، واتفقوا على قتله وذلك أنّ عيسى عليه السلام لمّا أخرجه مع أمه من بينهم عاد إليهم مع الحواريين وأطلق دعوته لإيمانهم بالله، فهموا بقتله واتفقوا على ذلك، فهذا هو المقصود بمكرهم.
قوله: (وَمَكَرَ اللَّهُ) المقصود بمكر الله هو إخفاق الله تعالى مساعيهم لقتل عيسى وهم يظنون أنّ مساعيهم لقتله قد نجحت، ويكون مكر الله استدراجه – سبحانه – لعباده من حيث لا يعلمون أو هو مجازاة الله على مكرهم فسمى الجزاء باسم الابتداء كقوله سبحانه: (والله يستهزئ بهم)،وقوله: (وهو خادعهم) يعني يجازيهم الله على مكرهم واستهزائهم وخداعهم؛ لأنّ اصل المكر في اللغة الاحتيال والخداع.
قوله (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلان الله لمساعيهم، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره “ويجوز أن يكون معنى (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أنّ الإملاء والاستدراج الذي يقدره الله سبحانه للفجار والجبابرة والمنافقين شبيه بالمكر من هؤلاء في أنه حسن الظاهر سيء العاقبة، لكنه من قبل الناس الماكرين ينطوي على سوء طوية وسفاهة رأي وجبن وضعف وطمع ونحو ذلك، لكنه من قبل الله هو خير محض مجرد عما في المكر من القبح، أي فإذا كان في المكر قبح فمكر الله خير محض”. فمكر الطائفة الكافرة بعيسى من بني إسرائيل هو اتفاقهم على قتل عيسى، وأما مكر الله بهم فإنه – سبحانه – ألقى شبه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى وهم يحسبونه عيسى وصلبوه، فذلك قول الله عز وجل (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبهّه لهم).

