يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

لما ذكر الله تعالى في آية الدين الكتابة والاشهاد لمصلحة حفظ الأموال بين المتداينين، عقب ذلك بذكر حال الاعذار المانعة من الكتابة وجعل لها الرهن، ونص جل وعلا من أحوال العذر في السفر الذي هو غالب الاعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك المعنى كل عذر، والرهن جائز في السفر بنص هذه الآية، وجائز في الحضر بثبوته في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه شعيرا، فقال اليهودي: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي” فمات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي.

ومعنى الرهن في اللغة: الثبوت والدوام يقال ماء راهن أي راكد ودائم ونعمة راهنة أي ثابتة دائمة وأرهنت لهم الطعام والشراب ادمته لهم ومنه قول الشاعر:

الخبز واللحم لهم راهن

  وقهوة راووقها ساكب

ومنه قول في الوقت الراهن في الوقت الحاضر، ومعنى الرهن شرعا: جعل عين مالية وثيقة بدين يستوفي منها أو من ثمنها إذا تعذر الوفاء، والرهن ليس واجبا، بل هو جائز في السفر وفي الحضر.

قوله (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) وهو الغالب في الاسفار، ويكون كذلك في الحضر فلا يجد كاتبا كأوقات اشغال الناس وبالليل، وأيضا الخوف على خراب ذمة الغريم يكون عذرا يوجب طلب الرهن.

قوله (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) يعني البديل عن الكتابة الرهن ويكون مقبوضا من قبل المرتهن أو وكيلة فعلا لا قولا والرهن أي عين تكون بقيمة الدين أو ازيد منه يستوفى فيها الدائن المرتهن حقه إذا لم يوفيه المدين.

قوله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) يعني فإن كان المدين امينا عند رب المال الدائن فلم يطلب منه رهنا في سفره أو حتى في الحضر لأمانته عنده على ماله وثقته به فليتق المدين الله ربه يعني فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أو يجحده فيتعرض من عقوبة الله ما لا قبل له به وليؤد دينه الذي ائتمنه عليه إلى الدائن.

قوله (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ) هذا خطاب من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدين ورب المال بإشهادهم، فقال لهم: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تكتموا أيها الشهود شهادتكم عند القاضي أو الحاكم، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه، ثم أخبر جل ثناؤه الشاهد ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند القضاء أو الحاكم ففقال ومن يكتمها يعني ومن يكتم شهادته فإنه آثم قلبه يعني فاجر قلبه مكتسب بكتمانه شهادته معصية الله.

قوله (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) يعني أن الله جل وعلا بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها، عليم سبحانه يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كله جزاءكم إما خيرا وإما شرا على قدر استحقاقكم.

Scroll to Top