قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) يعني صدقوا بالله ورسوله وقوله (اتَّقُوا اللَّه) يعني خافوا الله على أنفسكم فاتقوه بطاعته فيما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) يعني دعوا ما بقى من الربا اتركوا طلب ما بقي لكم من زيادة على رؤس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربوا عليها، قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني إن كنتم محققين إيمانكم قولا وفعلا، وهذه الآية نزلت بسبب قبيلة ثقيف الذين كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن بالهم من الربا على الناس فهو لهم وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم فلما جاءت آجال الدين مع رباهم بعثوا إلى مكة يطلبون رباهم وكانت الديون على بني المغيرة المخزومين ورفض بنو المغيرة وقالوا: لا نعطي شيئا فإن الربا قد رفعوا أمرهم إلى عتاب ابن اسيد وكان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية وكتب الرسول إلى تثقيف فكفت عنه أخذ الربا.
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ).
قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) يعني فإن لم تتركوا ما بقي من الربا، قوله (فَأْذَنُوا) يعني فاعلموا واستيقنوا وكونوا على أذن من الله عز وجل لكم بذلك، وهذا وعيد إن لم يتركوا الربا والحرب كما يقولون داعية القتل، قال ابن عباس رضي الله عنهما، من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتبه فإن تاب وإلا ضرب عنقه، ودلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده، قوله (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) يعني إن تبتم فتركتم أكل الربا ورجعتم إلى الله عز وجل فلكم رءوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي احدثتموها على ذلك يربا منكم ، وقوله (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) يعني لا تظلمون أحدا بأخذ رءوس أموالكم التي كانت لكم ولا تظلمون من قبل الغريم الذي يعطيكم رأس مالك دون زيادة ولا يمنع ذلك عنكم.
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعني وإن وجد ممن تقبضون منه من غرمالكم ذو عسرة يعني معسرا برؤس أموالكم التي لكم عليهم فعليكم أن تؤجلوهم إلى ميسرتهم من عسره على ميسرته بدون زيادة، قوله (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعني وأن تتصدقوا برؤس أموالكم على هذا المعسر خير لكم من ان تؤخروه إلى ميسرته (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعني تعلمون موضع الفضل في الصدقة وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
قال كثير من أهل العلم أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن الكريم ويقال أن النبي صلى الله عليه سلم مكث بعد هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم الاثنين.
ومعنى هذه الآية: احذروا أيها الناس يوما – وهو يوم القيامة – والتمهيد بالموت قبل البعث ترجعون فيه إلى الله فتلقونه سبحانه في هذا اليوم، احذروا أن تردوا عليه سبحانه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم أو بفضحات تفضحكم، فتهتك استاركم أو بموبقات نوبقكم فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإن هذا اليوم يوم مجازاة الأعمال لا يوم استعتتاب ولا يوم توبة وإنابة ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفي فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيء وصالح، وأن هذا اليوم لا يغادر فيه صغيرة لا تنقص أجورهم وأعمالهم كيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها، كلا بل عدل الله عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل واسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه فأخذ منه حذره، وراقبه أن يجم عليه يومه وهو من الأوزار طهره ثقيل، ومن صالحات الاعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فاعذر ووعظ فأبلغ.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
هذه الآية الكريمة تسمى آية الدين أو المداينة وهي أطول آية في كتاب الله وفيها حفظ الحقوق والعدالة بين الناس، والمعنى يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا تداينتم يعني إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به او تعاطيتم أو أخذتم به إلى أجل مسمى يعني إلى وقت معلوم وقتموه بينكم ويدخل في ذلك القرض وبيع الحاضر من الأملاك بالأثمان المؤجلة والسلم، كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى مؤقت، وقوله (فَاكْتُبُوهُ) يعني فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع أو قرض، قوله (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) يعني وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين كاتب بالعدل يعني بالحق والانصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، وقوله (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) يعني لا يمتنع هذا الكاتب الذي طلب منه الدائن والمدين أن يكتب بينهما كما علمه الله كتابته فخصه الله بعلم ذلك وحرمه كثيرا من خلقه، وقد اختلف العلماء في حكم كتابة الدين والاشهاد عليه والراجح عند العلماء أن كتابه الدين والاشهاد عليه مندوب وليس واجبا لكنه الأحسن والأفضل حفظا للحقوق بين الناس وإرشادا لهم وتعليما قوله (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) يعني فليكتب الكاتب بالعدل، وليملل الذي عليه الحق وهو الغريم المدين يملى على الكاتب، فالذي يتولى الاملاء قوله (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) يعني المدين الذي يملي على الكاتب يحذر الله من أن تنقص من حق الدائن شيئا (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) يعني من الدين والبخس هو النقص ظلما أو يذهب منه تعديا.


