قال بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت فيمن عنده خيل يعلفها في سبيل الله، وقال آخرون أن المقصود بهذه الآية أقوام أنفقوا في سبيل الله في غير اسراف ولا تقتير فهم من أهل الجنة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “المكثرون هم الاسفلون” يعني بالمكثرين الذين يكثرون أموالهم، ويعني بالاسفلين يعني نار جهنم، وكررها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، والصحابة يقولون له: إلا من يا رسول الله، حتى قال إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه وهكذا خلفة وقليل ما هم، هؤلاء قوم انفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد، والمقصود بالإنفاق هنا الصدقات المندوبة أما الصدقات المفروضة فهي في سورة التوبة.
ثم قال الله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
قوله (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) يأكلون يعني يأخذون الربا، فعبر عن الأخذ بالأكل لان الأخذ إنما يراد للأكل والربا في اللغة العربية الزيادة مطلقا يقال بالشيء يربو إذا زاد ومنه الحديث: “فلا والله ما أخذ ناس لقمة إلا ربا من تحتها” يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وفي عرف الشرع أن غالب الربا ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم: اتقضي أم تربي، فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه.
قوله (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) يعني في يوم البعث يقومون من قبورهم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يعني يبعث كالمجنون، ويعني يتخبطه الشيطان يعني تملكه، فجعل الله هذه العلامة لأكله الربا فهم إذا خرجوا من قبورهم ويسقطون ويبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم وكلما قاموا سقطوا، والناس يمشون عليهم، وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في اول العقد، قوله (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) لأن في البيع الثمن مقابل السلعة أما في الربا وهو الزيادة لا مقابل لها إلا الزمن والزمن ليس سلعة وأوضح الله أن أجل الدين إذا حل ولم يكن عند المدين ما يؤدي أنطر إلى الميسرة، قوله (الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يعني بالموعظة التذكير والتخويف وما أوعد الله على أكل الربا من العقاب فمن اتعظ فانتهى عن أكل الربا وانزجر عنه (فَلَهُ مَا سَلَفَ) يعني له ما أكل وأخذ قبل مجيء الموعظة والتحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يعني وأمر أكل الربا بعد مجيء الموعظة مفوض إلى الله إن شاء عصمه عن أكله وإن شاء خذله عن ذلك، قوله (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني من عاد لأكل الربا بعد التحريم فهم اهل نار جهنم فيها باقون إلى الأبد مخلدون.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).
قوله (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) أي يذهب بركته وإن كان كثيرا، روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل”، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) يعني لا يقبل الله من المرابي صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة لأرحامه، ومعنى المحق النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتفاضه.
قوله (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) أي يمنها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بمضاعفتها في الآخرة وورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم “إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له” يعني ينميها ويزيدها” كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد.
قوله (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) يعني: والله لا يحب كل مصر على الكفر بربه، وقيم على كفره، مستحل أكل الربا وإطعامه، ومعنى أثيم يعني متماد في الإثم فيما نهاه ربه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من المعاصي، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوى عنه ولا يتعظ بموظعة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآيات كنا به.
ثم يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
هذا خبر من الله سعيد بأن الذين آمنوا أي صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم من تحريم الربا وأكله وغير ذلك مما شرعه الله في دينه، وعملوا الصالحات التي أمرهم الله عز وجل بها، وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأدوها بسننها وآتوا الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، وخص الله الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهذين الركنين وتنبيها على قدرها إذ هما راس الأعمال الصلاة في أعمال البدن والزكاة في أعمال المال، لهم اجرهم يعني لهم ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقتهم عند ربهم يوم حاجتهم إليه سبحانه في آخرتهم، ولا خوف عليهم يومئذ من عقابه ولا هم يحزنون يعني على تركهم ما كانوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به لأنهم رأوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوانه في الآخرة.


