يقول الله تعالى في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

قوله (أَنْفِقُوا) يعني زكوا وتصدقوا وهذا خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتستوعب هذه الآية الزكاة بشروطها والصدقة تطوعا ويكون انفاقكم سواء من الزكاة أو من الصدقات من الجيد دون الرديء وهذا في قوله (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ)، ومعنى الكسب تعب البدن يعني ما اكتسبه الإنسان بتعب من تجارة أو إجارة أو وظيفة وهو الغالب والميراث يدخل في الكسب ولو لم يكن به تعب وكذلك العطية والهدية باعتبار أنه كسب من المورث والمهدي والمعطي.

قوله (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يدخل في هذه الآية الثمر والنبات والمعادن والنفط وغير ذلك مما في الأرض من خيرات سواء أكان مملوكا لأفراد أو للدولة ولكن يقصد في هذه الآية الغالب وهو الثمر وخاصة التمر.

قوله (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) تيمموا تقصدون وتعمدوا، يعني لا تقصدوا وتعمدوا والخبيث الرديء غير الجيد، ولا تقصدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه ولكن تصدقوا من الطيب الجيد، وذلك أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار علق عثقا من حشف “التمر الرديء” في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفقراء المهاجرين.

قوله تعالى (وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يعني لستم بأخذي الرديء في أي حق من حقوقكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يعني إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم فترخصوا فيه لأنفسكم يقال: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو تغميض فلو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه فكيف ترضون لله في الصدقة والا ترضون لأنفسكم وحق الله عليكم للفقير والمسكين من أطيب أموالكم وأنفسها، وهذا تفسير بن عباس رضي الله عنهما وتلا قوله تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يعني واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها وإنما أمركم بها وفرضها في أموالكم رحمة منه لكم ليغني بها فقيركم ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم لا من حاجة به جل وعلا فيها إليكم (حَمِيدٌ) أي محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمة وبسط لهم من فضله.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

قوله (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ) معناه يخوفكم بالفقر لئلا تنفقوا وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان ع الانفاق في سبيل الله وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهي المعاصي والانفاق فيها وتخويفه بالفقر بمنع الصدقة ما يؤدي إلى التناحر والتقاطع والعصيان والحقد والحسد والبغض والكراهية.

قوله (بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) يعني أن الله يبشركم بسبب إنفاقكم في سبيله بشئين الأول: المغفرة وهي الستر على عبادة في الدنيا والآخرة، والثاني: الفضل ومعناه الرزق في الدنيا والنعيم في الآخرة.

روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة” [1]ومعنى اللمة الخاطرة تخطر على قلب الإنسان – فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يعني أن الله سبحانه وتعالى يعطي من سعة ويعلم جل شأنه حيث يضع ذلك ويعلم الغيب والشهادة.

ثم يقول الله تعالى في سورة البقرة (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

قوله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) أي يعطي الحكمة لمن يشاء من عباده، وأصل الحكمة مأخوذة من الحكم في القضاء والفصل فيه وهي تعني معان كثيرة منها المعرفة بالقرآن وفقهه وفيه الإحكام وهو الاتقان في قول وفعل والحكمة أنواع متعددة فكتاب الله حكمة وسنة نبيه حكمة، والتفكر في أمر الله واتباعه حكمة وخشية الله حكمة والصواب في القول والفعل حكمة وكل فضيلة حكمة.

قوله (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) يعني أن من أعطى الحكمة والقرآن فقد أعطى أفضل ممن جمع علم كتب الأولين لأن الله قال فيهم (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) وقال فيمن اعطى الحكمة (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) أي اعطى خيرا كثيرا.

قوله (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) يعني وما يتعظ من هذه الآيات المتعلقة بالإنفاق في سبيل الله والصدقات وغيرها من آيات القرآن إلا أولوا الألباب يعني إلا أصحاب العقول، لأن معنى اللب العقل الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه وهذا خير من الله تعالى أن المواعظ غير نافعة إلا لأصحاب العقول الذين يدركون أوامر الله فيأتمرون وينزجرون فيما نهاهم عنه.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).

قوله (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) أي صدقة تصدقتم بها قليلة كانت أو كثيرة وقوله (أو نذرتم من نذر) يعني وأي نذر نذرتم والنذر هو ما أوجبه المرء على نفسه طاعة لله وتقربا بالنذر إليه سبحانه من صدقة أو عمل خير، قوله (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) أي أن جميع ذلك بعلم الله لا يغيب عنه سبحانه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه جل وعلا يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على ذلك كله، فمن كانت صدقته ونذره منكم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه جازاه بالذي وعده سبحانه من مضاعفة الأجر والثواب، ومن كانت صدقته رياء للناس ونذوره للشيطان جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب، قوله (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) يعني وما لمن أنفق ماله رياء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعة الشيطان من أنصار جمع نصير ومعناه من ينصرهم من الله يوم القيامة فيدفع عنهم عقابه بقوة وشدة بطش ولا بفدية والظالم هو الذي يضع الشيء في غير موضعه وإنما سمى الله المنفق رياء للناس والناذر في غير طاعته سبحانه سماه ظالما لأنه أنفق ماله في غير موضعه ونذر ماله في معصية الله فكان ذلك ظلمه.

ثم قال تعالى بعد ذلك (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

قوله (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ) يعني أن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه، قوله (فَنِعِمَّا هِيَ) يعني فنعم الشيء هي، قوله (وَإِنْ تُخْفُوهَا) يعني وإن تستروها فلن تعلنوها قوله (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ) يعني وتعطوها الفقراء في السر، قوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يعني فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها، ويكون الإخفاء في صدقة التطوع، وليست في صدقة الفريضة وهي الزكاة وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها، من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، قوله (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) يعني ويكفر الله عنكم بصدقاتكم من سيئاتكم أي أنه سبحانه يجازي من أخفى صدقة التطوع ابتغاء وجه الله بغفران سيئاته، قوله (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعني والله بما تعملون في صدقاتكم من إخفائها وإعلان وإسرار بها وإجهار وفي غير ذلك من أعمالكم خبير يعني ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو سبحانه بجميعه محيط ولكله محص على أهله، حتى يوفيهم ثواب جميعه وجزاء قليلة وكثيرة.


[1] – أخرجه الترمذي (2988).

Scroll to Top