الراجح من أقوال المفسرين في قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ويسمى أبو الحصين من بني سالم بن عوف كان له ابنان بالغان فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا إلى الشام وهم نصارى أتاهم ولدا ابي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنى تنصرا وخرجا فاطلبهما يا رسول الله فأنزل الله فيه ذلك.
وكذلك ما ورد من روايات أن المرأة في الجاهلية في يثرب “المدينة” لا يعش لها ولد فتنذر عن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم فجاء الإسلام وطوائف من أبناء النصارى على دينهم وهم بالغون فقالوا إنما جعلناهم على دين أهل الكتاب لأننا نرى أن دين اليهود والنصارى أفضل من ديننا قبل مجيء الإسلام، وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهن أبناءنا الذين تهودوا أو تنصروا وهم عند مجيء الإسلام بالغون فلنكرههم على الإسلام فنزلت هذه الآية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام فمن لحق بهم اختار اليهودية ومن أقام اختار الإسلام وهذا عندما أجليت بنو النضير من المدينة.
قوله (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) الدين هو المعتقد والملة والمقصود به هن الإسلام.
قوله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) يعني قد وضح الرشد ومعنى الرشد الصواب وإصابة الحق من الغي ويعني الغي هو الضلال وعدم إصابة الحق وهو مصدر من الغواية يقال: غوى فلان يعني ضل طريق الحق والصواب، ومجمل المعنى قد وضح الحق من الباطل واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه.
قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الطاغوت مأخوذ من قول القائل: طغا فلان يطغو إذا تجاوز حده وقدره مثل قولهم حدوت من التجبر بزيادة الواو والتاء، ويقال “حلبوت” من الحلب خبير في الحلب يأتي من الدابة المحلوبة بلن يتجاوز ما يأتي به غير الخبير بها والطاغوت في معنى هذه الآية كل ذي طغيان على الله سبحانه فعبد من دون الله بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة عمياء ممن عبده والطواغيت في كل زمان ومكان سواء أكانوا من الناس أو وثنا أو كاهنا أو ساحرا.
قوله (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) يعني يصدق الله سبحانه وتعالى خالق هذا الخلق ومحييه ومميته ويصدق بأن الله إلههُ ومعبوده فقد استمسك بالعروة الوثقى، استمسك يعني طلب أن يمسك أو مبالغة في المسك بشدة ولكل شيء عروته وهي المكان الذي يستطيع الإنسان أن يحمل أو يتمسك به خشية الغرق أو الليل أو ما إلى ذلك والمقصود هنا هو الإسلام لأن عروة الإسلام وثيقة شديدة الالتحام، قوله (لَا انْفِصَامَ لَهَا) لا انفصام لا انكسار من غير بينونه والقصم كسر ببينونه والمعنى ان المستمسك بالإيمان لا يزول عنه اسم الايمان ولما كان الإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب ناسب من صفات الله قوله (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يسمع ما تنطق به ألسنتكم ويعلم ما تعتقده قلوبكم.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
قوله (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا) يعني نصير الذين آمنوا وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يعني: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان والمقصود بالظلمات في هذه الآية الكفر، وإنما جعل الظلمات للكفر مثلا، لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين ومبصرهم حقيقة الإيمان، وموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك وظلم سواتر ابصار القلوب.
قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعني الجاحدون وحدانية الله (أَوْلِيَاؤُهُمُ) يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم (الطَّاغُوتُ) يعني الأوثان أيا كانوا الذين يعبدونهم من دون الله (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) يعني بالنور: الإيمان ويعني بالظلمات: ظلمات الكفر وشكوكه الحائلة دون ابصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان. قوله (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني هؤلاء الذين كفروا أصحاب النار يعني أهل النار الذين يخلدون فيها دون غيرهم من أهل الإيمان إلى غير غاية ولا نهاية أبدا


