قوله (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) يعني أعلمك يا محمد بمقولة إبراهيم عليه السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) هذا السؤال الذي وجهه إبراهيم إلى ربه لم يكن شكا من إبراهيم في إحياء الله الموتى بدليل قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فالأحياء من الموت متقرر في ذهن إبراهيم عليه السلام ولكنه سأل ربه عن الكيفية مثل قولك “كيف حال والدك” فالسائل مقر بوجود والدك وإنما سأل عن حال من أحواله، فكيف في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الأحياء لا عن الاحياء و(أَرِنِي) لم يرد إبراهيم الرؤية القلبية وإنما أراد المعاينة ورؤية النظر وسأل إبراهيم ذلك ليزداد يقينا على يقينه وعلم اليقين يكون بالسماع من ثقات تتاوتر أقوالهم وعين اليقين يكون بالرؤية البصرية في كيفية الاحياء.
قوله (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) هذه الألف ليست الف استفهام لان الله يعلم أن إبراهيم عند علم اليقين وإلا لما بعثه سبحانه وتعالى وهو أبو الرسل والأنبياء، ولكن هذه الألف تسمى ألف إيجاب وتقدير وهذا موجود في كلام العرب ومنه قول الشاعر جرير: “ألستم خير من ركب المطايا” ولذلك أجاب إبراهيم ره بقول (بَلَى) وهي نافية لعدم الإيمان، وفي اللغة نفي النفي إثبات، قوله (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي سألتك يا ربي ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا.
والطمأنينة معناها الاعتدال والسكون، فطمأنينة الأعضاء اعتدال لها وسكونها كما قال عليه السلام “ثم حتى تطمئن راكعا” وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتنق وهو معانية في صورة الإحياء واختلف المفسرون في الباعث والمحرك لإبراهيم عليه السلام يقال بعضهم أنه رأى جيفة نصفها في البر تأكلها السباع ونصفها في البحر تأكلها دواب البحر فلما رأى تفرقها أحب أن يرى أنضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق ولا شك أن هذه آية ومعجزة لإبراهيم خليل الرحمن وفي مواجهة النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، فأوحى الله إليه بأن يأخذ أربعة من الطير، فأخذ إبراهيم هذه الطيور الأربعة حسب ما أمره الله وذبحها ثم قطعها قطعا صغيرة وخلط لحوم بعضها إلى بعض وهذا معنى قول (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) معناه قطعهن واضمهن إليك.
قوله تعالى (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) أي أمر الله إبراهيم بتفريق هذه اللحوم مع الريش والعظام على الجبال يضع جزءا من هذه اللحوم على كل جبل حتى يرى جل وعلا خليله إبراهيم على قدرته جل وعلا على عودة كل جزء وكل ريشة وكل عظم إلى هذه الطيور الأربعة، ثم قال تعالى (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا) أي يأتي كل طير من هذه الأربعة مشيا ويعرف كل طير رأسه (ادْعُهُنَّ) يعني قل لهن تعالوا لي، ثم عقب الله على ذلك بقوله لإبراهيم (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يعني اعلم يا إبراهيم أن الذي احيا هذه الطيور بعد تمزيقك اياهن وتفريقك اجزاءهن على الجبال مجمعهن ورد إليهن الروح حتى اعادهن إلى ما كانوا عليه اعلم انه عزيز في بطشه بالجبابرة والمتكبرين الذين خالفوا أمره وعصوا رسله وعبدوا غيره (حَكِيمٌ) أي يضع الشيء في مواضعه اللائقة به وهو حكيم في أمره ونهيه سبحانه.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
هذه الآية الكريمة مثال لشرف النفقة في سبيل الله تحريض على الجهاد، فشبه الله جل وعلا المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فتعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة ومزيده الله على السبعمائة مثل الزارع إن كان حاذقا في عملهن ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر فكذلك المتصدق المنفق في سبيل الله إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر.
وروى المفسرون أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله كانت لي قانية آلاف فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة ألاف وأقرضت لربي أربعة ألاف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت” وقال عثمان: يا رسول الله على جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما.
قوله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) الحبة اسم لكل ما يزرعه الانسان ويدخره للأكل وأشهر الحبوب القمح وهو البر على اختلاف نوعه.
قوله (حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) السنابل جمع سنبلة والسنبلة مأخوذة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل أي استرسل كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه.
قوله (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ) قد يكون في السنبلة مائة حبة إذا أحسن الزارع الزرع وتعهد التربة، وقد يكون فيها أقل وهذا حث على اكمال العمل الصالح والصدقة المضاعفة.
قوله (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) يعني والله سبحانه يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف لمن يشاء من المنفقين في سبيله.
(وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يعني والله واسع فضله وأجره وثوابه وهو أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده وهو سبحانه عليم بمن يستحق الزيادة.


