يقول الله تعالى في سورة البقرة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)

قوله (أَلَمْ تَرَ) هذه رؤية القلب لا رؤية العين، يعني ألم تعلم أو تنبه إلى أمر الذين خرجوا أو كما نقول جاءك العلم وفيه يعني التحذير حتى لا تكونوا مثلهم.

وقصة هؤلاء أنهم تعددت الروايات عنهم فقال بعض العلماء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء “مرض معدي” وقيل الطاعون أو الحمى الشديدة، وعدهم بعض العلماء بأربعة الأف فخرجوا من قريتهم هاربين وقالوا نأتي ارضا ليس بها موت فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم وقيل إنهم ماتوا ثمانية أيام وقيل إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، وقال بعض العلماء: إنهم فروا من الجهاد لما أمرهم الله به على لسان نبي لهم من أنبياء بني إسرائيل فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من لك فأماتهم الله ليعفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى في الآية القادمة (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

وأيا كانت هذه الاقوال فإن اللازم من هذه الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلق من بعدهم أن الاماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدى امره سبحانه المؤمنين من أمه محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد.

قوله (وَهُمْ أُلُوفٌ) جمع ألف وتعددت الروايات في عددهم من أربعة ألاف إلى ستمائة ألف، قوله (حَذَرَ الْمَوْتِ) يعني فرارا من الموت.

قوله (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) هذا الأمر أمر تكوين أي جعلهم الله موتى مخالفة لهم على هروبهم من الموت.

قوله (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) قيل ماتوا ثمانية أيام وقيل أكثر أو أقل ثم نفخت منهم الروح، وقيل أماتهم الله عقوبة لهم ثم أحياهم وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها.

قوله (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يعني أن الله تعالى يعطي نعمة وهو المتفضل على خلقه، ومن فضل تبصير عباده سبيل الهدى وتحذيره لهم طرق الردى وغير ذلك من أفضاله ونعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم وأنفسهم وأموالهم كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم بعد اماتته إياهم وجعلهم لخلقة مثلا وعظه وليعلموا أن الأمور كلها بيده.

قوله (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) يعني لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم وفضلي الذي فضلت به عليهم بعبادتهم غيري وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله يعني في دينه الذي هداكم له لا في طاعة الشيطان، والقتال في سبيل الله هو الذي ينوي به أن تكون كلمة الله هي العليا والقتال يكون لأعداء الدين الصادين عن سبيل الله، ولا تجبنوا عن لقائهم ولا تعقدوا فإن بيد الله حياتكم وموتكم ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم فيدعوه ذلك إلى الفرار منهم فتذلوا ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي أويتم إليه كما أتى الموت الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت.

قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به.

ثم يقول تعالى بعد ذلك (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق حرض سبحانه وتعالى على الانفاق في ذلك والمعنى من هذا الذي ينفق في سبيل الله فيعين مجاهدا أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه، وإنما سماه الله تعالى قرض لأنه معنى القرض: إعطاء الرجل غيره ماله ملكا له ليقضيه مثله إذا اقتضاه.

فلما كان إعطاء من اعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله إنما يعطيهم ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة سماه قرضا، وإنما جبله الله تعالى حسنا لأنه المعطي يعطي ذلك عن استجابة لحض الله تعالى إياه احتسابا منه فهو لله طاعة وليس ذلك الحاجة بالله إلى أحد من خلقه وهذه الآية مثل قوله تعالى (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).

ولما نزلت هذه الآية (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا..) قال أبو الدحداح رضي الله عنه يا رسول الله أو إن الله يريد منا قرض، قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد اقرضت ربي حائطي “حديقتي” فيه ستمائة نخلة، ثم جاء يمشي حتى أتى حديقته وأم الدحداح وعيالها فيه فناداها: يا أم الدحداح قالت لبيك، قال: أخرجي قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمائة نخلة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “كم من عذق مذلل لابي الدحداح في الجنة”[1]، قوله (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) هذا وعد من الله تعالى مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء على قرضه ونفقته لا حد له ولا نهاية.

قوله (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعين أن الرزق بيد الله يقبضه ويبسطه، أي يقتر يقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويبسط أي يوسع ببسطه الرزق على من يشاء منهم، وإليه تردون ومعادكم أو إلى التراب ترجعون من التراب خلقهم وإلى التراب تعودون.


[1] – أخرجه البزار (2033).

Scroll to Top