هاتان الآيتان تتحدثان عن بعض أحكام المطلقات، وابتدت الآية الأولى برفع الإثم عن المطلق بعد العقد وقبل الجماع، سواء فرض أي وجب مهرا أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لقصيد التذوق وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة، وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل الجماع قد وقع في هذا المكروه فنزلت الآية رافعة للإثم في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
قوله (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) المس هنا هو الجماع، قوله (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) يعني أو توجبوا لهن صداقا واصل الفرض: الواجب.
قوله (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) يعني اعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر ما تملكون من الغنى والاعسار وعلى حسب الزمان والمكان، فالرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ثم يطلقها قبل الدخول فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره، وتسمى هذه متعة الطلاق وهي مشتقة من المتاع وهو جميع ما ينتفع به أو يستمتع به وذهب جمهور الفقهاء إلى أن المتعة تجب لمطلقة قبل الدخول ولم يفرض لها مهر لهذه الآية الكريمة.
قوله (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي يحق ذلك عليهم حقا يقال حققت عليه القضاء وأحققت أي أوجبت وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها فقوله (حَقًّا) تأكيد للوجوب، ومعنى على المحسنين أي على المؤمنين إذ ليس لأحد أن يقول لست بمحسن، والناس مأمورون بان يكونوا جميعا محسنين، فيحسنون بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلون النار فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين.
قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) يعني هذه حالة من حالات المطلقة وهي امرأة عقد عليها ووجب لها المهر ثم طلقها زوجها قبل جماعها وقبل الدخول بها فحكمها أن لها نصف ما وجب لها من المهر، واختلف العلماء في الرجل يخلو بزوجته ولم يجامعها حتى طلقها والراجح أن عليه جميع المهر وعليها العدة.
قوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) و(يَعْفُونَ) معناه يتركن ويصفحن والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج واللاتي يعفون كل امرأة تملك أمر نفسها وكن بالغات عاقلات راشدات ويجوز عنوا البكر التي لا ولي لها، او يترك الذي بيده عقد النكاح ومن هو عقدة النكاح هو الزوج، وذهب بعضهم أنه ولي المرأة، قوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) هذا موجه إلى الأزواج والزوجات بأن يعفو بعضهم لبعض من الطلاق عما وجب لبعضهم قبل بعض.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
قوله (حَافِظُوا) هذا خطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها، والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه، والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره واعدله، ومنه قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وأفرد الله سبحانه الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها، كقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) وقوله (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ).
واختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى فقال بعضهم إنها الظهر لأنها وسط النهار ولأنها كانت أشق على المسلمين لأنها كانت تجيء في شدة الحر وقد تعبوا في أعمالهم، ومنهم من قال إنها العصر لأن قبلها صلاتي نهار الفجر والظهر وبعدها صلاتي ليل المغرب والعشاء، واحتجوا بما رواه عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة الوسطى صلاة العصر، وما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب “شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا”[1].
وبعضهم قال إنها المغرب لأنها متوسطة في عدد الركعات لسيت باقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر، ولأنه قبلها صلاتي سر وبعدها صلاتي جهر، وبعضهم قال صلاة العشاء، لأنها بين صلاتين لا تقصران وتجئ في وقت نوم وذلك شاق فوق التأكيد في المحافظة عليها وهناك من قال إنها صلاة الصبح لأن قبلها صلاتي ليل ويجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما ولأن وقتها يدخل والناس نيام والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف ليقصر الليل، ومن العلماء من قال إنها صلاة الجمعة لأنها ختمت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا، وبعضهم قال إنها غير معينة فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء وقد رجح بعض المفسرين هذا القول حتى يحرص المسلم على المحافظة على جميع الصلوات وأدائها في أوقاتها ورجح الطبري انها صلاة العصر لورود الأحاديث بالنص عليها.
قوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) يعني في صلاتكم واختلف العلماء في معنى قوله (قَانِتِينَ) فقال بعضهم طائعين وقال بعضهم خاشعين، وقال بعضهم ساكتين لان الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحاً في صدر الإسلام لما رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من العند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال (إن في الصلاة شغلا) ومعنى القنوت في اللغة العربية الدوام على الشيء ولذا يسمى المديم على الطاعة والخشوع قانتا وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة والسكوت كل هؤلاء فاعلون للقنوت.
قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت هو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا وبين أن هذه العبادة الصلاة لا تسقط عن العبد ورخص لعبده في الصلاة مشيا على الاقدام بقوله (فَرِجَالًا) وانتم تمشون على الاقدام (رُكْبَانًا) يعني وانتم راكبون على الخيل والابل وغيرها ايماء وإشارة بالرأس حيثما توجه وهذه في صلاة الفرد الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسابقة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله.
قوله فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) إذا ذهب الخوف فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام القيام والخشوع ومعنى فاذكروا يعني اشكروا الله على اعطائكم هذه الرخصة في حال الخوف من الصلاة وأنتم لم تكونوا تعلمون هذا من قبل.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
هذه الآية منسوخة حكما لا تلاوة عند جمهور العلماء، الآية التي نسختها هي قوله سبحانه (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، ذلك أن المتوفي عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفي عنها حولا أي سنة كاملة وينفق عليها من ماله مالم تخرج من المنزل باختيارها فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح أي إثم في قطع النفقة عنها ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر وعشرة أيام، ونسخت النفقة الربع والثمن كما ورد في سورة النساء بقوله تعالى (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم).
قوله (وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) يعني فرض لله لهن وصية على الأزواج أي فليوصوا وصية ثم الميت لا يوصي ولكنه سبحانه أراد إذا قربوا من الوفاة وما هي هذه الوصية، هذه الوصية تتناول امرين الأمر الأول المتاع ها هنا نفقه سنتها، بقوله إلى الحول يعني السنة والأمر الثاني أن عدتها سنة كاملة مع السكن وهو قوله سبحانه (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها، قوله (فَإِنْ خَرَجْنَ) باختيارهن قبل مرور السنة (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي لا حرج على أحد من ولي أو حاكم أو غيره، لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا، أي لا حرج عليكم في قطع النفقة عنهن ولا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج ولكن عليها الا تتزوج قبل انقضاء الحول، وقل ذلك نسخ بما ذكرناه سابقا، وقوله (مِنْ مَعْرُوفٍ) هو ما يوافق الشرع، وقوله (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) العزيز صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه القضية وهي اخراج المتوفي عنها زوجها (حَكِيمٌ) أي محكم لما يريد من أمور عبادة يضع الشيء في موضع اللائق به.
قوله (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يعني ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج متاع يعني بذلك ما تتمتع به من ثياب وكسوة ونفقه وغيرها والراجح في هذه الآية أن المقصود بالمطلقات هنا الثيبات اللواتي دخل بهن لأن غير المدخول بهن في النفقة قد بينها الله تعالى في قوله (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين)، وبناء عليه يكون لكل مطلقة نفقه.
وقوله (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يعني على الكل فلا يدعى إنسان على نفسه أنه غير تقي، المتقين هم الذين اتقوا الله في امره ونهيه وحدوده فقاموا بكل ما كلفهم القيام به.
قوله تعالى (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) كذلك ما سن من آيات من الله ما يلزم لكم أيها المؤمنون لأزواجكم وما يلزم أزواجكم لكم، وعرفتكم أحكامي لتعقلوا أي تستوعبوا هذه الأحكام أيها المؤمنون بي وبرسولي وبحدودي لما فيه صلاح دينكم ودنياكم.
[1] – صحيح البخاري (6396).


