لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الارضاع، ذكر سبحانه وتعالى عدة الوفاة أيضا، لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق، وهذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل لأن المتوفى عنها زوجها الحامل تناولتها الآية الكريمة وهي قوله تعالى (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فعدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور الفقهاء، وهذه الآية كذلك ناسخة لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لأن الناس كانوا إذا توفى الرجل منهم وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقه سنة وبالسكن ما لم تخرج فتتزوج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث.
قوله تعالى (وَالَّذِينَ) أي الرجال الذين يموتون منكم (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) أي يتركون ازواجا أي لهم زوجات.
قوله تعالى (يَتَرَبَّصْنَ) التربص: معناه التأني والتصبر عن النكاح وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بالاتفاق ليلا، وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الاحداد وإنما قال تعالى (يَتَرَبَّصْنَ) والسنة بينت جميع ذلك، بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بان التربص في الوفاة إنما هو بإحداد ومعنى الاحداد هو الامتناع عن الزينة وليس المصبوغ الجميل والطيب وهذا قول جمهور العلماء.
قوله (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) المراد بالعشر الأيام بلياليها وزيادة هذه العشر مع الأشهر الأربعة لأجل الحمل لأنه ينفخ منه الروح في العشر.
قوله (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يعني بعد مضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة، فلا حرج عليكم أيها الأولياء والمقصود أولياء المرأة فيما فعلن في أنفسهن يعني من الطيب والزينة والتنقل خارج السكن الذي كن يعتدون فيه ونكاح من يجوز لهن نكاحه والمقصود بالمعروف على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن.
قوله (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله بما تعملون أيها الأولياء في أمر من أتم وليه من نسائكم ومن أموركم خبير يعني ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه من شيء.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
قوله (وَلَا جُنَاحَ) أي لا إثم، والجناح الإثم في تعريف الشرع وهو في اللغة الأمر الشاق ، قوله (عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ) المخاطبة هنا لجميع الناس والمراد هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة أي لا إثم عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة، والتعريض ضد التصريح وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره، وهو من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره والمفرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلا ما يفهم معناه.
وألفاظ التعريض كثيرة منها أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها ومنها أن يشير بذلك إليها دون واسطة فيقول لها إني اريد التزويج أو إنك الجميلة أو إنك الصالحة، أو إن الله لسائق إليك خبرا أو يقول إني فيك لراغب أو يقول إن يقدر الله أمرا يكن، أو أن يهدي اليها هدية أو أن يقوم بحاضنها أثناء عدتها وتجوز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج.
قوله (مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) الخطبة بكسر الخاء هي طلب المرأة للزواج من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره كخطبة الجمعة.
قوله (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها والإكنان معناه الستر والاخفاء، ومنه كننت الشيء إذا سترته بثوب أو نحوه، فرفع الله الاثم عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الاكنان، ونهى سبحانه عن المواعدة التي ه تصريح بالتزويج واتفاق على وعد.
قوله (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) أي أن الله يعلم أنكم ستخطبوهن إما سرا وإما أعلانا في نفوسكم وبالسنتكم، فرخص في التعريض دون التصريح لعلمه تعالى بقلبه النفوس وضعف البشر.
قوله (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني، بل يعرض إن أراد ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في سر وخفية، وهذا هو الراجح عند العلماء، قوله (سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض.
قوله (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) يعني لا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة فتوجبوها بينكم وبينهن وتعقدوها قبل إنقضاء العدة حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني يبلغن انتهاء العدة وهي أربعة أشهر وعشرا وهي الأجل الذي اجله الله في كتابه وأوجبه على المرأة المتوفى زوجها والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة سماها كتابا إذ وقد وحده وفرضه كتاب الله تعالى كما قال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أي فرض وكما قال (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) أي فرضا.
قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) أعلموا أيها الناس أن الله يعلم ما في أنفسكم ورغبتكم في نكاح المعتدات فى غير ذلك من أموركم فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه في شأن المعتدات وفي غير ذلك، قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) يعني أنه سبحانه ذو ستر لذنوب عبادة وتغطية عليها وما تكتمه نفوس الرجال في شأن المعتدات وفي غير ذلك من خطاياهم (حَلِيمٌ) أنه سبحانه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.


