الخطاب في هذه الآية موجه إلى أولياء أمر الزوجة، وسبب نزولها أن أحد الصحابة وهو معقل ابن يسار كانت اخته زوجة لأبي البداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه، فنزلت الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال “إن كنت مؤمنا فلا تمنع اختك عن ابي البداح” فقال آمنت بالله وزوجها منه.
قوله (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بلوغ الاجل هنا يعني انتهاء العدة لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة.
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
قوله (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) الخطاب في قوله تعالى (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) موجه للأولياء وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضا الزوجة، ومعنى (تَعْضُلُوهُنَّ) أي تمنعوهن وتحبسوهن، والفضل هو التضييق والمنع، ويقال اعضل الأمر إذا ضاقت عليك فيه الحيل واصل العضل من قول العرب عضلت الناقة إذا نشبت ولدها فلم يسهل خروجه وعضلت الدجاجة: نشيب بيضها ومنه داء عضال أي شديد عسر البرء اعيا الأطباء.
قوله (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني لا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهن إذا كن راضيات بالعودة إليهم بالمعروف مما شرع الله لهن من الحقوق وما عليهن من واجبات.
قوله (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) ذلك يعني ما ذكر في هذه الآية من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن نكاح زوجها الراضية به، عظة من الله لمن كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر يعني يصدق بالله وحدة ويقر بربوبيته ويصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، ليتقي الله في نفسه فلا يظلم موليته ويمنعها من نكاح من رضيته لنفسها ممن أذنت لها في نكاحه.
قوله (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) يعني نكاح أزواجهن لهن ومراجعة أزواجهن إياهن بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد أزكى لكم أيها الأولياء والأزواج والزوجات ومعنى (أَزْكَى لَكُمْ) أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن، ومعنى (وَأَطْهَرُ) أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة، وذلك إذا كان في نفس كل من الزوج والمرأة علاقة حب لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما.
قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) هذا تذكير من الله سبحانه وتعالى لعباده أنه يعلم سرائرهم وخفيات أمورهم، ما لا يعلمه بعضهم عن بعض، ولذلك أمر أولياء النساء بالنكاح عدم العضل والمنع لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوبة من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد لأن الزوجين قد يفترقان ولديهما ولد، وهذه الآية تتحدث عن المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن وهن أحق برضاع أولادهن من الاجنبيات لأنهن أحن وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبأمه المطلقة، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لنضل حنوها وشفقتها وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج وقال بعض العلماء أن الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفي الزوجات.
قوله (يُرْضِعْنَ) يبين مشروعية الرضاع، واختلف العلماء هل الرضاع واجب على الام أو مندوب لها وقول جمهور العلماء أن الرضاع واجب على الأم إذا كانت زوجة وهو عرف لازم، وأما المطلقة طلاق بينونة فليس عليها واجب الرضاع، إلا بالأجرة التي يدفعها الزوج لأن أجرة الرضاع على الزوج.
قوله (حَوْلَيْنِ) أي سنتين مأخوذ من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني (كَامِلَيْنِ) قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض الحول الآخر، قوله (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) هذا دليل على أن إرضاع الحولين ليس لازما إنه يجوز الفطام قبل الحولين، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين، وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين.
قوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعلى الأب لأنه ولد له رزقهن الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجز، وسماه الله سبحانه للأم لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع، وكسوتهن والكسوة اللباس وبالمعروف أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط، قوله (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) يعني أن الانفاق على قدر غنى الزوج لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعي القصد ، قوله (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) المعنى لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه وتطلب اكثر من أجرة مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الارضاع، قوله (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) يعني وارث الصبي من الرجال خاصة يلزمه الارضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا، قوله (فإن أرادا) يعني الوالدان الام والأب (فِصَالًا) معناه فطاما من الرضاع (عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا) قبل الحولين وتشاور، يعني يشاور أحدهما الآخر في الفطام (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي لا إثم، قوله (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) إذا اردتم تكون اجنبية ترضع أولادكم فلا إثم عليكم، (إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني إذا سلمتم أيها الإباء الأجرة إلى المرضعة بقدر ما أرضعت بالمعروف شرعا، ثم ختمت هذه الآية بتقوى الله ومخافته وأنه سبحانه مطلع على كل ما تعملون، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).


