يقول الله تعالى في سورة البقرة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قوله (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي على دين واحد، والمراد بالناس بنو آدم حين اخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية، وقال بعض المفسرين المراد بالناس منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، وقال مفسرون آخرون: المراد نوح عليه السلام ومن في السفينة، وقال ابن عباس: كان الناس قبل مبعث نوح عليه السلام أمة واحدة على الكفر، ونقل عن ابن عباس كذلك انه قال: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كلهم كفار، وولد إبراهيم في جاهلية فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم امة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولا من الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم.

ومعنى (أُمَّةً) مأخوذة من قولهم: أممت كذا أي قصدته فمنى (أُمَّةً) مقصدهم واحد، ويقال للواحد (أُمَّةً) أي مقصدة غير مقصد الناس ومنه قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) ومنه كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بني ساعدة: “يحشر يوم القيامة أمة واحدة”.

قوله تعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) المقصود بالنييين الرسل صلوات الله عليهم وسلامه اجمعين يبشرون من اطاع الله بجزيل الثواب وكريم المآب، وينذرون من عصى الله وكفر به بشدة العقاب وسوء الحساب.

قوله تعالى (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يعني أنزل مع كل رسول كتابا ليحكم كل نبي بكتابه وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب الذي انزله الله تعالى مع الرسل بالحق، فكان الكتاب بدلالاته حاكما بين الناس في الاختلاف الذي يقع بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره، قوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) يعني وما اختلف في الكتاب الذي انزله الله والمقصود هنا التوراة إلا الذين أوتوه يعني بذلك اليهود من بني إسرائيل وهم الذين اوتوا التوراة والعلم بها، قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) يعني من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب وهو التوراة الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه من عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ولا العمل بخلاف ما فيه فاليهود من بني إسرائيل خالفوا كتابهم واختلفوا فيه على علم منهم متعمدين الخلاف على الله سبحانه، قوله تعالى (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أخبر الله جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة والمعصية من خلافهم أمر الله إنما كان منهم بغيا بينهم، والبغي معناه تجاوز الحد والتعدي، يقال “بغى فلان على فلان” إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حده، فاعتدى اليهود بعضهم على بعض وضرب بعضهم رقاب بعض طلبا للدنيا وزخرفها وزينتها، أيهم يكون له الملك والمهابة بين الناس، قوله تعالى (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي وفق الله وارشد أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم من الأمم التي كذب بعضهم كتاب بعض فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها، وكذلك ما اختلف فيه اليهود والنصارى في بعض الأمور من القبلة فلليهود قبلتهم إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ومن يوم الجمعة فالنبي صلى الله عليه وسلم قال “هذا يوم اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد”[1].

قوله (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) والله يسدد من يشاء ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

ذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والحر والبرد وسوء العيش، وأنواع الشدائد ومثلها في سورة آل عمران (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).

قوله (أَمْ حَسِبْتُمْ…) أم هنا بمعنى بل، وحسبتم معناه ظننتم يعني ظننتم دخولكم الجنة واقعا، ولما بمعنى ولم تمتحنوا ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا.

قوله (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ…) يعني اصابتهم الشدائد والمحن، والبأساء هي شدة الحاجة والفارقة والضراء هي العلل، وقوله سبحانه (وَزُلْزِلُوا) الزلزلة شدة التحريك تكون في الأشخاص وفي الأحوال يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا فتزلزلت إذا تحركت واضطربت فمعنى (وَزُلْزِلُوا) خوفوا وحركوا حتى وصلت بهم حالة الرعب والجهد والشدة إلى أن يقول الرسول واتباعه متى ينصرنا الله؟ والمقصود بالرسول والذين آمنوا معه كل رسول واتباعه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله سبحانه (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) يكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب وقوله (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ألا تأتي لأهمية ما بعدها من الكلام وهذا كثير في لغة العرب، فأخبرهم الله جل وعلا أن نصره منهم قريب، وأنه معليهم على عدوهم ومظهرهم عليه، فنجز لهم ما وعدهم وأعلى كلمتهم وأطفأ نار حرب الذين كفروا.

ثم يقول الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).

قال بعض المفسرين نزلت هذه الآية في عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا فقال يا رسول الله إن مالي كثير فبماذا اتصدق، وعلى من أنفق وقال مفسرون آخرون إن السائلين هم المؤمنون ومعنى الآية يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، وأين يضعون ما لزم إنفاقه؟ وقيل: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة بمصارفها الثمانية، وقيل إن هذه الآية الانفاق فيها ندب والزكاة واجبة، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على ابويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله من طعام وكسوة وغير ذلك وعليه أن ينفق على امرأة ابيه كانت أمه أو أجنبيه، وكذلك يجب على الرجل الغني أن ينفق من تلزم نفقته شرعا كإخوانه المحتاجين أو أعمامه، واليتيم من توفى والداه أو احدهما وهو لم يبلغ بشرط أن يكون فقيرا والمسكين مأخوذ من المسكنة وهو الاحتياج الدائم وابن السبيل هو الغريب البعيد عن أهله وبلده أنقطعت به السبل ولم يجد ما يعيده إلى بلده وأهله والمسكين وابن السبيل من الأصناف الثمانية في الزكاة ولهما الأولوية في الانفاق ندبا.

ومأ أنفقتم من خير المقصود به المال المنفق منه، وما تفعلها من خير المقصود الإحسان إلى هؤلاء بالمال (فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعني يعلم ما تنفقون وما تفعلون من إحسان فيثيبكم عليه.


[1] – أخرجه البخاري (876)، ومسلم (855).

Scroll to Top