يقول الله تعالى في سورة البقرة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

قوله تعالى (كُتِبَ) معناه فرض وهذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصله إلى الجنة، والمراد بالقتال قتال الأعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في القتال مدة إقامته بمكة،  فلما هاجر إذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) واختلف العلماء في المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية والذي استمر عليه الاجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية فإذا قام به من قام عن المسلمين سقط عن الباقين إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين.

قوله (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وهو كره في الطباع والكره المشقة بضم الكاف، والكره بالفتح ما أكرهت عليه، وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه اخراج المال، ومفارقة الوطن، والأهل والتعرض بالجسد بالجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك لأن أنهم كرهوا فرض الله تعالى والامتثال لأمر الله بتضمن مشقة لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وحجامة وإجراء عملية ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

قوله (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) عسى من الله إيجاب وليست احتمالا والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتؤجرون ومن مات مات شهيدا.

قوله (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وقال بعض العلماء: لا تكرهوا الملمات الواقعة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه هلاكك.

قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) يعني والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتب الله عليكم من جهاد عدوكم وقتال من أمركم الله بقتاله، فإنه سبحانه يعلم أن قتالكم إياهم هو خير لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما يعلم الله سبحانه وفي هذا حض من الله جل ذكره على جهاد اعدائه وترغيب لعباده في قتال من كفر به.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في شهر رجب الحرام عبد الله بن جحش ومعه ثمانية رجال من المهاجرين وكتب لعبد الله بن جحش كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فلما سار يومين مع جماعته فتح الكتاب وقرأه فوجد فيه: “إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتى تنزل نخلة وهي محله بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا  وتعلم لنا من أخبارهم فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة ثم أخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكره أحدا منهم كما اخبره الرسول صلى الله عليه وسلم وانه عازم على ذلك وإن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، فقالوا لكما نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضوا معه حتى نزلوا بنخله فمرت بهم قافلة من الجمال لقريش تحمل زبيبا تجارة فيها عمرو بن الحضرمي، والحضرمي اسمه عبد الله بن عباد من الصدف وهم بطن من حضرموت فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الحرام فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام وإن تركناهم دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على قتالهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي من جماعة عبد الله بن جحش رمى عمرو بن الحضرمي فقتله، واسروا اثنين من القافلة والجمال وقدموا إلى المدينة وقال لهم عبد الله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله فكان أول خمس في الإسلام وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وانكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فسقط في ايدي القوم فأنزل الله عز وجل هذه الآية (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

قوله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) موجهوا السؤال من المسلمين الذين أنكروا على عبد الله بن جحش وجماعته قتل ابن الحضرمي وكذلك من كفار قريش واليهود تهكما واستهزاء وقالوا: قد استحل محمد واصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال واسروا، وقالت اليهود تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب، والشهر الحرام هو رجب، (قِتَالٌ فِيهِ) والمعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام (قُلْ) يا محمد (قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) القتال في الشهر الحرام عظيم لا يجوز فيه عند الله القتل وسفك الدم، (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)، والمعنى إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم أي منعوكم عن سبيل الله مع كفرهم بالله، ومنعوكم عن المسجد الحرام بل أخرجوكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، وهذا الذي فعلوه أكبر عند الله وأعظم من قتل من قتلتم منهم، وقوله (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه وذلك أكبر عند الله من القتل.

قوله (الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) أي إن الكفار هم يتربصون بكم الدوائر ويقاتلونكم غير تائبين ولا نازعين وهذا تحذير للمسلمين من خبث الكفار وشرهم بقدر استطاعتهم، قوله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر فيمت وهو كافر، فيأتيه الموت وهو في حالة الكفر (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) أي بطلت وفسدت أعمالهم مأخوذين الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني الذين ارتدوا عن دينهم وماتوا على كفرهم هم أهل النار ساكني النار من غير أن ولا نهاية.

Scroll to Top