يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق فيدخل في هذا القمار والخديعة والعطب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كأثمان الخمور والخنازير ومهد البغي وحلوان الكاهن وغير ذلك من الملاهي والشرب والبطالة.

ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي لأنه إنما يقضي الظاهر فعن ام سلمة زوج الرسول قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحق بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما اسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا مأخذه فأنما أقطع له قطعة من نار”[1] وهذا الحديث نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن سواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج.

والباطل في اللغة هو الذاهب الزائل، يقال بطل يبطل بطلانا زال وذهب ومن معاني الباطل اللهو يقال تبطل فلان أي اتبع اللهو ومن معانيه إبليس لعنه الله وقوله تعالى (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) هو إبليس لا يزيد في القرآن ولا ينقص ومن معاني الباطل الشرك ومنه قوله تعالى (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) يعني الشرك.

قوله (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) يعني كل مال ليس فيه بينه والمقصود بالحكام هم القضاة وقد يكونوا الولاة إذا جمعوا بين الولاية والقضاء، ومن الأموال التي يقع التلاعب فيها الوديعة ومال اليتيم في أيدي الاوصياء يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة أي أنكم تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق يقال أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر يقال أدلى دلوه أو أرسلها ومنه قوله تعالى في سورة يوسف (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الادلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (فَرِيقًا) أي قطعة وجزءا فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض، وأصل الفريق: القطعة من الغنم تشذ عن القطيع، أي تأكلون جزءا من أموال الناس (بِالْإِثْمِ) معناه بالظلم والتعدي، وسمى ذلك إثما باعتبار أن الإثم يتعلق بفاعله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعلمون بطلان ذلك وإثمه وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.

واتفق العلماء على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو أكثر بالباطل أنه يفسق بذلك وأنه محرم عليه أخذه لهذه الآية ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع “إن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام”[2] وهو حديث متفق على صحته.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قوله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى الله عليه وسلم، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدبر، ثم ينتقص حتى يعود كما كان فأنزل الله هذه الآية وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله، ومخالفته لحال الشمس.

والأهلة جمع هلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر غير كونه هلالا في شهر آخر فإنما جمع أحواله من الأهلة، والمراد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلول الهلال فيه كما قال الشاعر:

أخوان من نجد على ثقة

  والشهر قبل قلامة الظفر

وسمى شهرا لأن الايدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه ويطلق لفظ الهلال لليلتين من أول الشهر أو لثلاث ليال فإذا بدأ بالاستدارة وتهتز ضوءه السماء واكتملت استدارته سمى بدرا وقيل سمى هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور.

قوله (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) يعني قول لهم يا محمد جوابا عن سؤالهم هي أي الأهلة مواقيت للناس والحج، هذا تبين الوجه لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه وهو زوال الاشكال في الآجال والمعاملات والايمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والايجارات إلى غير ذلك من مصالح العباد ومثل هذا قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)، وكذلك قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)، والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت (وَالْحَجِّ) افرد الله سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت وأن له أشهر معلومات لقوله تعالى (الحج اشهر معلومات) روخصه بالذكر لأنه من اركان الإسلام، وأن الشهور كلها مواقيت لمصالح العباد وفيها مواقيت هذا الركن وهو الحج.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع …. في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها فنزلت الآية فيهما جميعا، وكانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا حجو وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل فإذا خرج الرجل منهم بعد اجرامه من بيته فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته وكانوا يعتقدون أن هذا من البر أي من التقرب إلى الله سبحانه فابطل الله تعالى هذا ورد عليهم وبين أن البر في امتثال أمره.


[1] – صحيح البخاري (7185).

[2] – صحيح البخاري ( 7078).

Scroll to Top