يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، وكان القتال محظورا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما هاجر إلى المدينة أمر، بالقتال فنزلت هذه الآية، وهذا أرجح الروايات في نزولها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى مكة للعمرة فلما نزل الحديبية بقرب مكة والحديبية اسم بئر فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر – فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء على أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين ورجع إلى المدينة فلما كان من السنة المقبلة تجهز الرسول لعمرة القضاء وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام فنزلت هذه الآية أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار، فهذه الآية متصلة بما سبق من ذكر الحج فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه.

وقال جماعة من العلماء: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وبقوله تعالى (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) والراجح عند العلماء أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان والمرضى والشيوخ والأجراء وأدلة أن هذه الآية محكمة يعمل بها ما ورد في السنة من حديث ابن عمر (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان ومن أشبههم وقاتل فيه مفاعلة لا يكون في الغالب إلا من اثنين كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، وبهذا أوصى الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان بن حرب وكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام، وشيعه أبو بكر راجلا وقال له “وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا ولا تعفرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ولا تغلل الأخذ من الغنيمة بغير حق، ولا تغبن” وقد فصل الفقهاء تفصيلا موسعا دقيقا في كتبهم في هذه المواضع، وهذه الآية خطاب لجميع المسلمين في كل زمان ومكان فأمر كل أحد أن يقاتل من قاتله.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).

معنى هذه الآية الكريمة: واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ومعنى التثقيفة بالأمر الحذق به والبصر يقال للرجل: إنه لثقيف لفيف ،  إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور جيد الحذر في القتال بصيرا بمواقع القتل فمعنى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم.

قوله (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) فإنه يعني جل وعلا بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة فقال لهم الله سبحانه اخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم وقد اخرجوكم من دياركم واخذوا مساكنكم كما اخرجوكم منها.

قوله (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أصل الفتنة في اللغة الابتلاء والاختبار والمعنى وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عن دينه فيصير مشركا بالله من بعد اسلامه، أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا به محقا فيه، فالقتل أخف على المؤمن من الفتنة والرجوع إلى الشرك والاوثان والكفر.

قوله (الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، ومعنى هذا لا تبتدئوا أيها المؤمنون المشركين بالقتال عند المسجد الحرام حتى يبدأوكم بالقتال فإن بدءوكم بالقتال هنالك عند المسجد الحرام في الحرم فاقتلوهم فإن الله جعل ثواب الكافرين على كفرهم واعمالهم السيئة القتل في الدنيا والخزي الطويل في الآخرة.

وللعلماء في هذه الآية قولان أحدهما أنها منسوخة بقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، وعلى هذا القول بالنسخ يجوز الابتداء بالقتال في الحرم والقول الثاني ان هذه الآية محكمة وهذا الأرجح عند العلماء وهو الذي يقتضيه نص الآية ويؤيده ما روى في الصحيح من الأحاديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإن لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.

قوله تعالى بعد هذه الآية (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومعنى هذه الآية، فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله فتركوا ذلك فإن الله غفور لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وايامه التي مضت، رحيم به في آخرته بفضله عليه وإعطائه ما يعطى أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة والفتنة هنا الكفر والشرك وما تابعه من أذى المؤمنين، وأصل الفتنة الاختبار والامتحان، مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها، وحتى لا يعبد دون الله أحد، وتضمحل عبادة الاوثان والآلهة والانداد وتكون العبادة لله وحده دون غيره من الاصنام والاوثان.

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) والمقصود بالدين في هذا الموضع العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه، وتلك كلمة التوحيد لا إله إلا الله عليها قاتل النبي صلى الله عليه وسلم وإليها دعا، فقال صلى الله عليه وسلم “إني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.

قوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم ودخلوا في ملتكم واقروا بما ألزمكم الله من فرائضه وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان.

قوله (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) يعني دعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم، فإنه لا ينبغي أن يعتدى إلا على الظالمين وهم المشركون بالله والذين تركوا عبادته وعبدوا غير خالقهم وبدؤكم بالقتال، وذلك على وجه المجازاة لما كان من المشركين من الاعتداء يقول سبحانه افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم كما يقال: ن تعاطيت منى ظلما تعاطيته منك والثاني ليس بظلم ومنه بيت لعمرو بن شاس الاسدي:

جزينا ذوي العدوان بالأمس قرضهم

  قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل

Scroll to Top