قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) المعنى وإذا سألوك عن المعبود جل وعلى فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي ويعلم ما يفعل العبد من صوم وصلاة وغير ذلك واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال بعضهم: إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعدما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية، وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء في الصوم ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم فنزلت هذه الآية في قبول التوبة، وقال بعض المفسرين نقلا عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت يا محمد تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغليظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقيل: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت.
قوله تعالى (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي بالإجابة وقيل بالعلم وقيل قريب من أوليائي بالأفضال والإنعام، قوله تعالى (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي أقبل عبادة من عبدني فالدعاء بمعنى العبادة والإجابة بمعنى القبول دليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني استجب لكم” ادعوني استجب لكم فسمي الدعاء عبادة فامر تعالى بالدعاء واحض عليه وسماه عبادة ووعد بأن يستجيب لهم، والمقصود بقوله تعالى (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) الأخبار بتعريف جميع المؤمنين ان هذا وصف ربهم سبحانه أنه يجيب دعاء الداعين في الجملة وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا وإما أن يكفر عنه وإما أن يدخر له في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم “ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعه رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها” وفي رواية الإمام مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعه رحم ما لم يستعجل – قيل يا رسول الله: ما لاستعجال، قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء”.
ومما يتصل بقوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، أنه مما يمنع إجابة الدعاء قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب لي، لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط، ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلى الله عليه وسلم: “الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه وحرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب له”[1]، وإجابة الدعاء لابد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به، فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله وان الوسائط في قبضته سبحانه ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون الداعي مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء، ومن شرط المدعو فيه أن يكن من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا كما قال صلى الله عليه وسلم: “ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم” فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم واما شروط الدعاء فقد قال بعض العلماء إنها سبعة أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.
ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت بل يعره سؤاله ودعاءه من الفظ المشيئة ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء وذلك لما اخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فاعطني فإنه لا مستكره له”[2] وهذا دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمة الله لأنه يدعو كريما.
وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة وذلك كالسحر ووقت الفطر وما بين الآذان والإقامة وأوقات الاضطرار، وحالة السفر والمرض وعند نزول المطر والصف في سبيل الله، كل هذا جاءت به الآثار.
قوله تعالى ” فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ” أي فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الإيمان أي الطاعة والعمل وكذلك قوله سبحانه (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) لعلهم يرشدون الرشاد خلاف الغي والمراشد: مقاصد الطريق والرُشد والرّشد والرشاد معناه الهدى والاستقامة.
قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
لفظ (أُحِلَّ) يقتضي انه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ، وروى أبو داود في سننه: كان الرجل إذا فطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقال: إني قد نمت فظن أنها تعتل فاتاها، وجاء رجل من الأنصار فاراد طعاما فقالوا: حتى نسخن لك شيئا فنام فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية ففيها (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ).
قوله تعالى (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الرفث كنايه عن الجماع، والرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، قوله تعالى (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) أصل اللباس في الثياب ثم سمى امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد واتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب، لان كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس، ويقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك.
قوله تعالى (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي يأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوع في ليالي الصوم، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره فائدا عليه، يقال خان واختان مأخوذ من الخيانة أي تخونون أنفسكم
بالمباشرة في ليالي الصوم، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب، وأصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه.
قوله تعالى (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم والمعنى الآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة (وَعَفَا عَنْكُمْ) يحتمل العفو من الذنب ويحتمل التوسعة والتسهيل.
قوله تعالى (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ) كناية عن الجماع أي قد أحل لكم ما حرم عليكم وسمى الجماع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه.
قوله تعالى (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) قال ابن عباس معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه بعد قوله (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ) وقيل معناه “ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به”.
[1] -أخرجه مسلم (1015).
[2] – صحيح الترمذي (3497).


