(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) كتب معناه فرض وأثبت، والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص الذي يتتبع الآثار والأخبار، وقص الشعر اتباع اثره فكأن القاتل سلك طريقا من طرق القتل فقص أثره ومش على سبيله في ذلك ومنه قوله تعالى (فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا) وصورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن ولي المقتول فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل فكانت القبيلة إذا كان فيها عز ومنعه فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا تقتل به إلا حرا واذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا تقتل بها إلا رجلا فأنزل الله هذه الآية فاعلمهم أن الذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار فنهاهم أن يتعدوا القاتل إلى غيره في القصاص وكذلك أن نقتص للحر من العبد وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره (بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال “المسلمون تتكافأ دماؤهم أي تتساوى”[1].
لا زلنا في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقد تقدم شرح بعض هذه الآية الكريمة.
يقول تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي أن الولي المقتول العفو عن القاتل وأخذ الديه، ومعنى عفى له من أخيه شيء أي ترك له وشيء يعني ديه ورضي منه بالديه، والتعبير بأخيه فيه دلاله واضحة على عدم قتله بعد أخذ الدية وهذا ينقض المسامحة والعفو بين المؤمنين.
(فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالديه، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان أي من غير مماطلة ولا تأخير، وهذا خض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي.
(ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم ديه، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل ومن شاء أخذ الدية ومن شاء عفا.
قوله (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قرية فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول إني اقبل الدية حتى يأمن القاتل ويخرج فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية أي من قتل بعد أخذ الدية وسقوط الدم قاتل وليه فله النار وما فيها من العذاب المؤلم.
قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني ولكم يا أولي العقول فيما فرضت عليكم وأوجبت عليكم القصاص حياة، وهذا من الكلام البليغ الوجيز والمعنى ان القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه كان زجرا لمن يريد قتل آخر مخافة أن تقتص منه فحييا بذلك معا وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حميت القبيلتان وتقاتلوا كان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال فلهم في ذلك حياة، ولذلك اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المراد تتقون القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة.
يقول تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) يعني فرض عليكم وأثبت وهذه الآية وما بعدها هي آية الوصية (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) حضور الموت أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب وهذا في اشعارهم كثير.
يقول عنترة:
وإن الموت طوع يدي إذا ما |
وصلت بنانها بالهندوان |
ويقول جرير وهو يهجو الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه |
فليس لهارب مني نجاء |
(إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) المقصود بالخير هنا في هذه الآية المال لكن العلماء اختلفوا في مقداره فقيل: المال الكثير روى ذلك عن بعض الصحابة وقدره بألف دينار مما فوقها وقال بعض العلماء من خمسمائة دينار إلى ألف فما فوق.
(الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الوصية أصلها من الاتصال في اللغة يقال: وصي وتراصي النبت تواصينا إذا اتصل وأرض واصيه يعني متصلة النبات، فالوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، واختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون، والراجح عند العلماء أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك موسرا كان الموصى أو فقيرا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يوصي، وقد أوصى أبو بكر فإن أوصى فحسن وإن لم يوصي فلا شيء عليه، والراجح عند العلماء أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث سواء أكان له ورثة أم لم يكن له ورثة وذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الامام مالك إلى أن الموصى إذا لم يترك ورثه جاز له أن يوصي بماله كله وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس” ومن لا وارث له فليس ممن عنى بالحديث.
(لِلْوَالِدَيْنِ) الراجح عند العلماء أن الوصية تكون للوالدين اللذين لا يرثان أما الوالدان اللذان يرثان فلا تجوز لهما الوصية لأنهما يرثان كما ورد في آية المواريث في سورة النساء (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) فبين الله سبحانه ميراث الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، والوالدان اللذان لا يرثان الكافران وولدهما مسلم فله أن يوصي لهما ولا يجوز أن يرثاه.
(وَالْأَقْرَبِينَ) الأقربون جمع أقرب، والراجح عند العلماء أن الأولى والأحسن والأفضل أن تكون الوصية للأقربين المحتاجين غير الورثة وإذا أوصى لغير قرابته فوصيته صحيحه، ولكن ترك الأولى، (بِالْمَعْرُوفِ) يعني بالعدل لا شطط ولا إسراف ولا تبذير وكان هذا موكولا إلى اجتهاد الموصى، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم “الثلث والثلث كثير”.
(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يعني ثابتا ثبوت نظير وتحصين لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) وهذا يدل على كون الوصية ندبا لأنه لو كانت الوصية فرضا لكانت على جميع المسلمين فلا خص الله من يتقي أي يخاف تقصيرا دل على أنها غير لازم وكان السلف يبادرون بكتب الوصية للمبالغة في زيادة
[1] – أخرجه أبو داود (4530).