قال كثير من المفسرين: أن الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود توجهوا إلى المغرب قبل بيت المقدس والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة، وفضلت كل فرقة توجهها فأنزل الله هذه الآية الكريمة وقيل لهم فيها: ليس البر ما أنتم فيه ولكن البر من آمن بالله إلى نهاية الآية.
قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ) البر هنا اسم جامع للخير، قال العلماء: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار، والملائكة والكتب والمنزلة وأنها حق من عند الله والنبيين وإنفاق المال من المال الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل – قيل المنقطع به السبيل وقيل الضيف، والسؤال وفك الرقاب، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد، وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب لشرحها.
قوله (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) إيتاء المال هنا غير الزكاة الواجبة على الراجح من أقوال العلماء لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن في المال حقا سوى الزكاة” ثم تلا هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) والحديث وإن كان فيه مقال ف إسناده، فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ) فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) ليس الزكاة المفروضة فإن ذلك يكون تكرارا، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب المال إلى هذه الحاجة، (عَلَى حُبِّهِ) يعني تعطى المال وأنت صحيح شحيح تطيل الأمل وتخاف الفقر وقال بعض المفسرين أن الضمير في حبه يعود للمعطى من ذوي القرابة واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، والأحسن الجمع بين المعنين حب المال حين بذله وحب المعطى له المال، مثل قوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا) فإنه جمع بين المعنيين، (ذَوِي الْقُرْبَى) يعني ذوي قرابته فوصل به أرحامهم (وَالْيَتَامَى) جمع يتيم وهو من فقد أبويه أو أحدهما في حال الصفر وليس عنده مال (وَالْمَسَاكِينَ) جمع مسكين وهو من لا يقدر على كسب قوته مأخوذ من السكون عدم الحركة (وَابْنَ السَّبِيل) أي المسافر يمر عليك وبعضهم قال الضيف وإنما قيل للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق والطريق هو السبيل كما يقال لطير الماء ابن الماء لملازمته إياه (وَالسَّائِلِينَ) أي الذين يستطعمون يطلبون ويسألون الطعام (وَفِي الرِّقَابِ) يعني بذلك فك الرقاب من الرق والعبودية وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم وعونهم على ذلك.
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ…).
(وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
(وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) حافظ عليها وأداها بأركانها وواجباتها وآدابها وداوم عليها (وآتى الزكاة) أعطاها على الوجه الذي فرضها الله عليه.
(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) من معاني العهد الأمانة والميثاق والصدق وهي كلها تدل على الأخلاق الفاضلة والصدق في القول والعمل، والوفاء بالعهد من قمم الأخلاق الواجبة سواء فيما بينهم وبين الله سبحانه أو فيما بينهم وبين الناس، بل إن نقص العهود والمواثيق قد يؤدي إلى الفساد والهلاك والحروب.
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) الصبر يحتوي معنيين، المعنى الأول الحبس والمعنى الثاني المنع، فالصابر يحبس نفسه على ما قدره الله عليه مع الأخذ بالأسباب ويمنع ومنه حبس النفس على الطاعات، ويمنع نفسه عن المعاصي والشهوات.
والبأساء الشدة والفقر، والضراء معناها المرض والغم وخاصة المرض المزمن الطويل وحين البأس يعني وقت الحرب والقتال.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وصفهم الله سبحانه بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء، والصدق: خلاف الكذب ومنه الصديق الملازم للصدق فمن فعل ما نصت عليه هذه الآية الجامعة فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم واتقوا عقاب الله فتجنبوا عصيانه وحذروا وعده وخافوه فقاموا بأداء فرائضه.