قال تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

بين الله تعالى في هذه الآية ما حرمه على المؤمنين فقال (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)، (إِنَّمَا) كلمة موضوعة للحصر تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه وقد حصرت ها هنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة (إِنَّمَا) الحاصرة.

(الْمَيْتَةَ) بالتخفيف وفيها قراءة (الْمَيْتَةَ) بالتشديد والميته والميت تقولان لمن مات فعلا أما من سيموت فلا يقال فيه (ميت) بالتخفيف وإنما يقال فيه (ميت) بالتشديد دليل ذلك قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) يعني إنك ستموت وإنهم سيموتون، والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، أما ما ليس بمأكول فذكاته كونه كالسباع وغيرها، وهذه الآية عامة في الميتة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام “أحلت لكم ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال”، وقوله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر “هو الطهور ماؤه الحل ميتته”.

شرحنا في الدرس السابق جزءاً من الآية الكريمة في سورة البقرة وهي قوله تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وبينا معنى الميتة، أما الدم فقد اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، وذكر الله سبحانه وتعالى الدم في هذه الآية مطلقا وقيده سبحانه في سورة الانعام بقوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه وإلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) وحمل العلماء المطلق في هذه الآية على المقيد في آية الانعام إجماعا، فالدم الحرام في هذه الآية هو الدم المسفوح لأن الدم الذي يخالط اللحم فغير محرم بالأجماع وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره وكذلك الكبد والطحال مجمع على إباحته.

(وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم الخنزير كله ذكي أو لم يذك وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها لأن الشحم يدخل تحت اسم اللحم، والخنزير في اللغة مأخوذ من الخزر وهو ضيق العين وصغرها، هو موجود في هذا الحيون يقال تخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر ويركز في نظره.

(وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه) أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى وهي ذبيحة المجوس والوثني والملحد، فالوثني يذبح للوثن من صنم وغيره والمجوس يذبح للنار والملحد لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه، ومعنى أهل مأخوذ من الإهلال وهو رفع الصوت يقال أهل بكذا أي رفع صوته ومنه إهلال الصبي واستهلاله وهو صياحه عند ولادته، وجرت عادة العرب بالصباح باسم المقصود بالذبيحة وغلب ذلك في استعمالهم ومنه الإهلال بالحج والعمرة.

ولا خلاف بين الفقهاء أن ما ذبحه المجوس لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، وكذلك لا تؤكل ذبيحتهما ولو بأمر من مسلم.

(فَمَنِ اضْطُرَّ) أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها من الضرورة وهذا الاضطرار قد يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة يعني في مجاعة إذا لم يأكل من هذا المحرم يصير إلى العدم.

(غَيْرَ بَاغٍ) يعني لا يزيد في أكله هذه المحرمات فوق حاجته الضرورية (ولا عاد) بأن لا يجد عن هذه المحرمات ما يسد جوعته ورفعه فيأكلها.

(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني لا تبعه عليه ولا حرج.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ينفر المعاصي فأولى إلا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ) يعني علماء اليهود كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته، ومعنى أنزل هنا أي أظهر وبين كما قال تعالى (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) أي سأطهر، وقوله سبحانه (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي بالمكتوم (ثَمَنًا قَلِيلًا) يعني هنا أخذ الرشوه وسماه قليلا  لانقطاع مدته وسوء عاقبته وذه الآية  وإن كانت في الإخبار عن اليهود فإنها تتناول كذلك من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، قوله تعالى (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّار) ذكر سبحانه البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل الغالب إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي له، ومعنى (إِلَّا النَّار) أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار، فسمى ما أكلوه من الرشوة نارا لأنه يؤد بهم إلى النار وأخبر عن المال بالحال كما قال تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، قوله سبحانه (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم يقال فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه وقيل المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية قوله (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطرهم ولا يثني عليهم خيرا (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني عذاب مؤلم موجع.

ثم يقول تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)، يعني أولئك الذين أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، والضلالة معناها الهلاك، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يوجب لهم غفرانه ورضوانه، قوله تعالى (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) الراجح فيه أن (فَمَا) معناه التعجب كأنه قال سبحانه “أعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها” ومنه قوله سبحانه (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) وقال بعض المفسرين ما أجرأهم على النار وما لهم والله عليها من صبر، وقيل ما استفهام معناه التوبيخ أي شيء صبرهم على عمل أهل النار؟ على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.

ثم قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) يعني فعلنا ذلك أي ما تقدم من النار لهم، أو ذلك الحكم بالنار معلوم لهم أو ذلك العذاب بالنار لهم قوله (بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ) يعني القرآن في هذا الموضع (بِالْحَقِّ) أي بالصدق أو بالحجة قوله (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) يعني التوراة فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى وأنكر اليهود صفته وقيل أي خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بالتوراة، وهناك من قال أن المراد بالكتاب هنا القرآن والذين اختلفوا كفار قريش يقول بعضهم هو سحر وبعضهم يقول: أساطير الأولين (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) يعني أنهم عداوة متأصلة بعيدة في العداوة يعني اليهود والنصارى.

Scroll to Top