لما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل هذه الآية ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر جل وعلا أن مع كل هذه الآيات والعلامات القاهرة لذوي العقول هناك من يتخذ معه أندادا جمع ند، والند هو العدل المساوي يقال فلان ند فلان عادله في القوة الجسمية أو الذكاء أو المال أو غير ذلك من الصفات، والمراد هنا الأوثان والاصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله تعالى مع عجزها وقال بعض المفسرين هم أهل الطغيان والجبروت الذين يجعلون بعض الناس يتخذونهم آلهة من دون الله كفرعون وغيره من الرؤساء المتبعين يطيعونهم في معاصي الله.
(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) أي يحبون اصنامهم وأوثانهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، أو أنهم مع عجز الأصنام والأوثان يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته أو يسوون بين الاصنام وبين الله في المحبة.
(وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم.
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) ومعنى هذه الآية الكريمة وهو الراجح عند المفسرين لو يرى الذين ظلموا في الدنيا – وظلمهم اتخاذهم اندادا من دون الله وحبهم لهذه الانداد مثل حب الله – عذاب الآخرة لعلموا حين يرون هذا العذاب ببصرهم لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب.
قوله تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ).
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعني السادة والرؤساء وكل متبوع على ضلالة تبرءوا ممن اتبعهم على كفرهم وضلالهم وظلمهم، (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) يعني التابعين والمتبوعين إما بتيقنهم للعذاب عند رؤيتهم في الدنيا أو عند العرض والمسألة في الآخرة.
(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أي الروابط والوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا جمع سبب ومعناه الوصلة والرابط واصل السبب في اللغة الحبل يشد بالشيء فيجذبه ثم جعل كل ما جر شيئا سببا.
قول تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) أي لو ثبت أن لنا رجعة والكرة الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، أي قال الاتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم أي ننفصل عنهم والتبرؤ الانفصال.
(كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم قيل هي من رؤية البصر أو من رؤية القلب، أي الاعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم النار، وقيل الاعمال الصالحة التي تركوها والحسرات جمع حسرة وهي أعلا درجات الندامة على شيء فائت وهي مشتقة من الشيء الخير الذي انقطع وذهبت قوته والتحسر التلهف على شيء فائت (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) هنا دليل على خلود الكفار في النار وأنهم لا يخرجون منها.
يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قيل: إن هذه الآية نزلت في بعض القبائل التي حرمت على نفسها الأكل من الأنعام واللفظ عام يتناول الكل، والطيب هنا هو الحلال فهو تأكيد لاختلاف اللفظ وقيل الطيب اللذيذ فهو تنويع.
(حَلَالًا طَيِّبًا) سمى الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه.
(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) الخطوات جمع خطوة وهي المشى ما بين القدمين مرة واحدة أي لا تقتفوا أثر الشيطان وعمله، فخطوات الشيطان أعماله وخطاياه واتباع خطوات الشيطان يعني طاعته.
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أخبر تعالى بأن الشيطان عدو وخبره جل وعلا حق وصدق، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي وضحت عدوانه من زمن آدم وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل في الآية التي تلي هذه الآية وهي قوله تعالى (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
سمى السوء سوءاً لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه ويحزن صاحبه، يقال سوءته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال الله تعالى (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظهر عليها الحزن والفحشاء أصله قبح المنظر ثم استعملت هذه الفظة فيما يقبح من المعاني فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء، وقيل: أن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى إلا قول الله تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ) فمعناها هنا منع الزكاة.
(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يريد جل من قائل ما حرموه من البحيرة والسائبة مما جعلوه شرعا والبحيرة هي الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوه واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ولا تطرد عن الماء ولا تمنع من مرعى إذا قدم من سفر بعيد أو يرى من علة أو نحته دابة من مشقة أو حزب قال ناقتي سائبة أي تسيب فلا ينتفع بظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تمنع من كلأ ولا تركب ويزعمون أن الله حرم ذلك فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن قولهم إن الله حرم هذا من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان وأنه جل شأنه قد أحله لهم وطيب ولم يحرم أكله عليهم ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته طاعة منهم للشيطان واتباعا منهم خطواته.


