(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) المعنى: وكما أن الكعبة التي أمرتم بالتوجه إليها وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط يأتي بمعنى العدل فعن ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) قال (عدلا) وفي قوله تعالى (قال أوسطهم) أي أعدلهم وخيرهم، يقال “وسط الوادي: خير موضع في الوادي وأكثره كلأ وماء، ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).
قد مضى تفسير قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).
(لتكونوا) أي لكي تكونوا أو لأن تكونوا أو من أجل أن تكونوا (شُهَدَاءَ) يعني شاهدين (عَلَى النَّاسِ) أي في المحشر يوم القيامة للأنبياء على أمهم، كما ثبت في صحيح البخاري عند ابي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون: ما أتانا نذير فيقول الرب جل وعلا لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل لتكونوا شهداء على الناس”.
وقالت طائفة من المفسرين معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خيرٌ فقال: “وجبت وجبت وجبت” ثم مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: “وجبت وجبت وجبت” فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدى لك ابي وامي، مر بجنازة فأنثى عليها خير فقلت: “وجبت وجبت وجبت” ومر بجنازة وأثنى عليها شر فقلت “وجبت وجبت وجبت” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، وانتم شهداء الله في الأرض، انتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض”[1].
قوله تعالى (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) قيل معناه بأعمالكم يوم القيامة، وقيل (عليكم) بمعنى “لكم” أي يشهد لكم بالإيمان.
قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى وهو الراجح (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة (فمن ينقلب على عقبيه) يعني من الذي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر، وأصل المرتد على عقبيه هو الراجح مستدبرا في الطريق الذي كان قطعه منصرفا عنه، لأن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين ونافرو قوم وقالوا: ما بال محمد يحولنا مرة إلى ها هنا ومرة إلى ها هنا، وقال المشركون: تحير محمد في دينه، فكان في ذلك فتنة للناس وتمحيصا للمؤمنين ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه.
[1] – أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949).


