قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).

قد مضى تفسير قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) في الدرس الماضي، والكلام في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

(وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) اختلف المفسرين في التي وصفها الله بأنها كانت كبيرة إلا على الذين هدى الله فقال بعضهم إن المقصود بالكبيرة هي التولية من بيت المقدس شطر المسجد الحرام والتحويلة هي كبيرة، وقال بعضهم إن المقصود بالكبيرة هي الصلاة التي كانوا يصلونها إلى القبلة الأولى، ولماذا هي كبيرة، لأن القوم إنما كبر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، فيما يدخل الشيطان به ابن آدم يقول لهم: ما لهم صلوا إلى ها هنا ستة عشر شهرا ثم انحرفوا، فكبر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين فقالوا: أي شيء هذا الدين، وأما الذين آمنوا فثبت الله ذلك في قلوبهم.

(إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) يعني وإن كانت التحويلة عن القبلة التي كنت عليها لعظيمة إلا على من وفقه الله فهداه لتصديقك والإيمان بك وتحويلك إلى الكعبة واتباعك فيه وفيما أنزل الله عليك.

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) المقصود بالإيمان هنا الصلاة إلى بيت المقدس، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال المسلمون: كيف بمن مات من أخواننا قبل تحويل القبلة، وبعضهم قال: كيف بصلاتنا نحو بيت المقدس هل هي باطلة فأنزل الله هذه الآية (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) لأن ذلك كان عنكم تصديقا للرسول واتباعا لأمر الله وطاعة منكم لله.

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) يعني إن الله بجميع عباده ذو رأفه، والرأفة من معاني الرحمة وقالوا: هي أكثر من الرحمة، والرأفة عامة لجميع الخلق في الدنيا، والرحيم فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والأخرة.

وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنه أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثبتهم عليها، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم، والمعنى: لا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ولا تحزنوا عليهم فإني لهم مثبت على طاعتهم وصلاتهم التي صلوها لأني ارحم بهم من أن اضيع لهم عملا عملوه لي وأنا أرأف بخلق من أن أعاقبهم على تركهم ما لم أمرهم بعمله.

يقول الله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) قد هنا للتحقيق والتأكيد وهي كذلك في خطاب الله تعالى مثل قول المؤذن “قد قامت الصلاة” وقد تكون في غير خطاب الله للتشكيل مثل أن يذهب أحد إلى رجل لحاجة فقد يعطيه وقد لا يعطيه.

(نَرَى) بمعنى العلم يعني نعلم يا محمد تقلب وجهك في السماء ومعنى (تقلب وجهك في السماء) تحول وجهك، أو تقلب عينيك في النظر إلى السماء، وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي.

وقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة لأن اليهود قالوا يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا، ولأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام.

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) يعني فلنصرفنك ولنحولنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها يعني تحبها وتتمناها.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أمره ربه سبحانه وتعالى بصرف وجهه وتحويله نحو المسجد الحرام يعني الكعبة.

ومعنى شطر في هذه الآية تعني نحو المسجد الحرام وتلقاء المسجد الحرام وقصد المسجد الحرام أي ناحية المسجد الحرام وجهه المسجد الحرام، ومن معاني الشطر النصف وشطر الشيء نصفه ومنه الحديث “الطهور شطر الإيمان”[1] ومنه قول العرب شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه وشطر عن كذا إذا أعرض عنه أما الشاطر من الرجال أو الشطار فهم أصحاب خبث ودهاء لكن العرف اللغوي المعاصر جعل الشاطر صاحب حيوية وذكاء.

(وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) يخاطب الله جل وعلا المؤمنين أينما كانوا من أرض الله بتحويل وجوههم نحو المسجد الحرام وتلقاءه، وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “البيت (الكعبة) قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم يعني مكة قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من امتي”.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني اليهود والنصارى أو اليهود خاصة (ليعلمون أنه الحق من ربهم) يعني لأنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق ومنه تحويل القبلة (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعيد من الله لهم وإعلام بأنه لا يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم.


[1] – خرجه مسلم (223).

Scroll to Top