قوله تعالى (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) سأل إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – ربهما – جل وعلا – التثبيت والدوام على الإسلام، والإسلام في هذا الموضع الإيمان والأعمال جميعا ومن قوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) أي أجعلنا مسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك ولا في العبادة غيرك فمعنى الإسلام هنا الخضوع لله بالطاعة.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك، فانها خصنا بذلك بعض الذرية لأن الله تعالى قد كان أعلم إبراهيم عليه السلام قبل مسئلته هذه أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمة وفجوره، وقال بعض المفسرين إنهما أرادا بذلك العرب وليس لهذا القول مسند، لأن دعوة إبراهيم وإسماعيل تدل على أن المراد به9ا أهل الطاعة والمستجيبون لأمر الله، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين، والمقصود بالأمة في هذا الموضع الجماعة من الناس ومنه قول الله سبحانه (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) أي جماعة.

(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أرنا بمعنى رؤية العين أي اظهرها لأعيننا، وأصل النسك في اللغة الغسل، يقال: نسك ثوبه إذا غسله، وفي الاصطلاح الشرعي اسم للعبادة يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا، وفي كلا المعنيين ارتباط ففي الغسل نظافة حسية وفي العبادة نظافة معنوية داخلية، والراجح عند علماء التفسير أن المراد بالمناسك هنا أعمال الحج: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والافاضة من عرفات والافاضة من مزدلفة ورمي الجمار وروى أن الله بعث جبريل إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فعلمهما مناسك الحج.

(وَتُبْ عَلَيْنَا) التوبة أصلها الرجوع من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد إلى ربه: رجوعه مما يكرهه الله منه والندم عليه والاقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه، وتوبة الرب على عبده عوده عليه بالعفو له عن جرمه والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه.

وطلب إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأن يتوب الله عليهما وهما المعصومان من الذنوب هو طلب التثبيت والدوام على عبادة الله لا أنهما كان لهما ذنب وكذلك أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم بعدما بنيا البيت وعرفا المناسك أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة ويجوز أن يكونا عنيا بقولهما: وتب علينا: وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا الذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم وشركهم حتى يطيعوك فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما والمقصود ذريتهما كما يقال: اكرمني فلان في ولدي وأهلي وبرني فلان إذا بر ولده.

(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) إنك أنت العائد على عبادك بالفضل والمتفضل عليهم بالعفو والغفران الرحيم بهم المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.

قوله تعالى (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: “انا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى”[1]، (فِيهِمْ) يعني في ذريتي على القوال الراجح عند المفسرين، وقد سبق نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم رسل منهم موسى وعيسى عليهما السلام فلماذا فسرت هذه الآية بخصوص محمد صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك أن هذه الدعوة جاءت وهما يرفعان قواعد البيت وكيفية أداء المناسك فيه وهذا خاص بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قول من قال إنهم العرب خاصة يعني كذلك محمداً وهو من العرب مرسل إليهم إلى جميع العالمين وهو آخر الرسل، يعرفون وجهه ونسبه.

(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ) يقرأ عليهم كتابك الذي أوحيته إليه.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) والكتاب هو القرآن، والحكمة هي المعرفة بالدين، والفقه في التأويل والفهم، والعلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها وهذا قريب جدا من قول بعض المفسرين أن المراد من الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المفسرة والموضحة للقرآن الكريم، ولذلك أخبر الله تعالى عن عيسى عليه السلام بقوله (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل).

(وَيُزَكِّيهِمْ) التزكية هي التطهير ومن معني الزكاة النماء والزيادة والمعنى في قوله (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من وسخ الشرك بالله وعبادة الاوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) معنى العزيز المنيع القوي الغالب الذي لا يعجزه شيء أراده ومنه قوله تعالى (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض) ومعنى الحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه اللائق به، وهو كذلك الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.

قوله تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) لا أحد يزهد أو ينأى بنفسه عن ملة إبراهيم والملة معناها الدين والشرع عن دين وشرع نبي الله ورسوله إبراهيم عليه السلام.

(إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) سفه بمعنى جهل والسفيه هو الجاهل أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها وقال بعض المفسرين إن المقصود بهذه الآية هم اليهود والنصارى ورغبوا ونأوا بأنفسهم عن ملة إبراهيم عليه السلام، وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها وهذا مثل قوله تعالى (ملة أبيكم إبراهيم) وقوله تعالى (إن اتبع ملة إبراهيم).

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس واللفظ مشفق من الصفو، ومعناه نخير الاصفى.

(وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الصالح في الآخرة هو الفائز برضوان الله تعالى.


[1] – صحيح ابن حبان( 6404).

Scroll to Top