قوله تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

(جَعَلْنَا) بمعنى صيرنا (الْبَيْتَ) يعني الكعبة (مَثَابَةً) أي مرجعا من ثاب يثوب أي يرجع إليه لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا (وَأَمْنًا) وسماه الله أمنا لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل ابيه أو أخيه لم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه (أو لم يروا أنا جعلنا حرما أمنا ويتخطف الناس من حولهم).

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) واتخذوا هذا أمر من الله سبحانه وقد روى عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي في أربع منها، قلت يا رسول الله لو صليت خلف المقام فنزلت هذه الآية (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

(مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) المقام في اللغة: موضع القدمين وهو الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرحل ثلاثا ومشى اربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ(قل هو اله أحد) و(قل يا أيها الكافرون) و(مصلى) يعني موضع صلاة يصلى عنده.

قوله تعالى (….وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

(وَعَهِدْنَا) قيل: معناه أوفا وقيل أوحينا (طَهِّرَا) الطهارة هنا قد تكون معنوية وقد تكون حسية يعني طهرا بيت الله من الآفات والريب والأوثان والكفار ونجراه وطيباه بالطيب (بَيْتِيَ) أضاف سبحانه البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم وهي إضافة مخلوق إلى الخالق ومملوك إلى مالك.

(لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون به وهذا المعنى هو الراجح وقيل معنى الطائفين الغرباء الطارئين على مكة (وَالْعَاكِفِينَ) العكوف والاعتكاف معناه في اللغة اللزوم والاقبال على الشيء، والمعنى المقيمين في بيت الله من أهل مكة أو الغريب عنها، والمجاورون في الحرم أو الجالسون في الحرم بغير طواف والمعنى متقارب.

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي دائمو الصلاة عند الكعبة، وخص الركوع والسجود بالذكر من أحوال الصلاة لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى، ودخل في عموم معنى (أن طهرا بيتي) جميع المساجد باعتبارها بيوت الله تعالى فيكون حكمها حكم البيت الحرام في التطهير والنظافة الحسيه والمعنوية وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها ولكونها أعظم حرمة.

قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا) يعني قد دعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش ودعا إبراهيم ربه أن يجعل مكة آمنة من القحط والجدب والغارات وأن يرزق أهله من الثمرات.

واختلف العلماء في مكة شرفها الله هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله على قولين: القول الأول: أن مكة كانت ولا تزال إلى يوم القيامة حرما آمنا قبل سؤال إبراهيم واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة “إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة”[1]، القول الثاني: أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد وإنها بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا واصبحوا بما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن زيد ن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني خرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وأني دعوت في صاعها ومدها بمثلى ما دعا به إبراهيم لأهل مكة” قال بعض علماء الحديث ولا تعارض بين الحديثين لأن الحديث الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، والحديث الثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد زمن من آدم عليه السلام.

قوله تعالى (….وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

دعا إبراهيم ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات لأنه أسكن ذريته في واد غير ذي زرع، وخص إبراهيم – عليه السلام – في دعائه المؤمنين المصدقين بالله سبحانه لأن كلمة أهل عامة تشمل المؤمنين وغير المؤمنين فخص إبراهيم من أهل مكة المؤمنين الله واليوم الآخر.

(قَالَ وَمَنْ كَفَرَ) اختلف أهل التفسير هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام والراجح أن هذا القول من الله سبحانه وتعالى لأنه جل وعلا يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وان الكافر يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار.

(فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) التمتع بالنعم والرزق (قَلِيلًا) بالنسبة لأعمارهم ثم يكون مصيرهم إلى عذاب النار (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي يصبح اقبالهم على النار ضرورة واكراها وبئس هذا المصير.

قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) القواعد هي الأساس وهي موجودة وهي التي على أساسها رفع إبراهيم البيت وبنى الجدران.

(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان وهما عليهما السلام يرفعان القواعد ربنا تقبل منا أي عملنا وطاعتنا إياك وعبادتنا لك في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به في بناء بيتك ودعائهما يرفعان القواعد من البيت دليل واضع على أن بناءهما ذلك لم يكن سكنا يسكنانه ولا منزلا ينزلانه بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك ولذلك قالا (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهما لم يكن لقولهما (تَقَبَّلْ مِنَّا) وجه مفهوم لأن بنيانه لم يكن قربة لله.

(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يعني إنك أنت السميع دعاءنا، وسئلنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه (الْعَلِيمُ) بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة وما نبدي ونخفي من أعمالنا.


[1] – أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353).

Scroll to Top