هذه الآية عظة من الله تعالى لليهود الذين كانوا في المدينة، وتذكيرهم بما سلف من نعمة تعالى بأوائلهم، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا بني إسرائيل اذكروا أيادى لديكم، وصناعي عندكم واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وإنزالي عليكم المن والسلوى في تهيكم وتمكيني لكم في البلاد بعد أن كنتم مذللين متهورين، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي إياكم على العالم أيام أنتم في طاعتي باتباع رسولي إليكم وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي، ودعوا التمادي في الضلال والغى.
قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، يعني اتقوا يا معشر بني إسرائيل المبدلين لكتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله، المكذبين رسولي محمد صلى الله عليه وسلم عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا ولا تغنى عنها غناء أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي وتكذيبكم برسولي فتموتوا عليه فإنه يوم لا تقبل من نفس فيما لزمها فدية ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع ولا هم ينصرون …. منها بمعصيتها إياه.
قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
الحديث عن نبي الله إبراهيم في هذه الآية من سورة البقرة والآيات التي تليها لها صلة بالآيات التي تحدثت عن اليهود – وهم من نسل إبراهيم – فكان من حق اليهود ألا يرغبوا عن دينه وهو أبو الأنبياء عليه السلام.
(وَإِذِ ابْتَلَى) الابتلاء معناه الامتحان والاختبار (إِبْرَاهِيمَ) تفسيره باللغة السريانية أب رحيم، وذلك لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغار إلى يوم القيامة.
(رَبُّهُ) قدم إبراهيم هو مفعول على فاعلة وهو (رَبُّهُ) للاهتمام به كما قال أهل اللغة.
(بكلمات) الكلمات جمع كلمة وهي كلام الله تعالى، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلف بها إبراهيم عليه السلام.
واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال: أحدها: أن هذه الكلمات هي شرائع الإسلام وهي ثلاثون سهما، عشرة منها في سورة التوبة (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) وعشرة في سورة الأحزاب (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) وعشرة في سورة المؤمنين (قد أفلح… إلى قوله… على صلواتهم يحافظون) وقوله تعالى في سورة المعارج (إلا المصلين) إلى قوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون) قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلى بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال (وإبراهيم الذي وفى) وقال بعض المفسرين في قوله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) يعني ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، واما التي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الشعر، وأما التي في الجسد: تقليم الاظفار، وحلق العانة والاختتان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء، وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن هذا كله مما ابتلى به إبراهيم عليه السلام.
(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) الإمام القدوة والمعنى جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدى بك الصالحون (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) هذا دعاء على جهة الرغبة إلى الله تعالى أي من ذريتي يا رب فاجعل، وقيل هذا من على جهة استفهام منهم أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون، فأخبره الله تعالى أن في ذريته العاصي والظالم لا يستحق الإمامة فقال (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
قوله تعالى (….قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أصل ذُرية من الذر، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين اشهدهم على أنفسهم وقيل هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذروهم ذرءا بمعنى خلقهم، وقال بعض المفسرين: إنما سمو ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر، والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة، وقد تطلق على الآباء والابناء ومنه قوله تعالى (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) يعني آباءهم.
(لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) اختلف في المراد بالعهد فروي عن ابن عباس أنه النبوة وقيل أنه الامامة وقال بعضهم الرحمة وقيل: دين الله تعالى، وقيل عهد الله يعني أمر الله ويطلق العهد على الأمر قال تعالى (إن الله عهد إلينا) أي أمرنا، وقال سبحانه (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) يعني ألم أقدم إليكم الأمر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله سبحانه (لا ينال عهدي الظالمين) أي لا يجوز أن يكونوا عجل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقمون عليها، وروى في قوله تعالى (لا ينال عهدي الظالمين) أي لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش وأبصر والمقصد بالظالم هنا المشرك.