(وَلَمَّا جَاءَهُمْ) يعني اليهود (كِتَابٌ) يعني القرآن وهذا القرآن من عند الله ووصفه الله بأنه مصدق لما معهم من التوراة يخبرهم بما فيها.
(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) أي يستنصرون يعني الاستنصار وهو طلب النصر، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية: كانت يهود خيبر تقاتل قبيلة غطفان فهزم يهود خيبر، فدعت يهود خيبر بهذا الدعاء، وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم، فكانوا إذا التقوا مع غطفان دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان وكان هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون بمجيئه ويستنصرون به كفروا به فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) واللعن هو الطرد من رحمة الله.
قوله تعالى (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ).
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) بئس في كلام العرب مستوفية للذم كما أن نِعم مستوفية للمدح، تقول مادحا: نِعم الرجل محمداً، وتقول ذاماً: بئس الرجل أبا جهل.
(اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) اشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع والمعنى بئس هذا الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالإيمان، والتعبير بالشراء هو الاختيار يعني اختاروا أن يكفروا بما أنزل الله على محمد وهذا شيء مذموم ولماذا فعلوا ذلك، فعلوه (بَغْيًا) أي حسدا لأجل إنزال الله الفضل وهو القرآن بما فيه من أحكام وإعجاز وتبيان لقصص من سبق على من يشاء من عباده وهو محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(فَبَاءُوا) أي رجعوا وأكثر ما يقال في الشر (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) معناه بعقاب من عند الله على عقاب ومعنى الغضب هو العقاب وقال بعض المفسرين الغضب الأول لعبادتهم العجل والثاني لكفرهم محمد صلى الله عليه وسلم أو لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد وقال بعضهم المراد شدة الحال عليهم وزيادة العقاب.
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (مُهِينٌ) مأخوذة من الهوان والمقصود هنا كما قال بعض المفسرين هو الخلود في النار دائما.
قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا) أي صدقوا (بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) يعني القرآن (اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ) أي نصدق (بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) يعني التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) أي بما سواه أو بما بعده ووراء بمعنى خلف وقد تكون بمعنى قدام وهي من الاضداد قال الله تعالى (وكان وراءهم ملك) يعني أمامهم، (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) يعني أن الله سبحانه أنزل كتبه على أنبيائه ورسله وكل هذه الكتب حق يصدق بعضها بعضا فلماذا التفرقة.
(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ) هذا رد من الله تعالى عليهم في قولهم نؤمن بما أنزل علينا وهو كذلك تكذيب من الله لهم وتوبيخ والمعنى فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك، والخطاب لمن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم، وإنما توجه الخطاب لأبنائهم لأنهم كانوا يتبعون أولئك الذين قتلوا كما قال تعالى (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم لأنهم رضوا قتلهم فنسب ذلك إليهم.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم معتقدين الإيمان فلم رضيتم بقتل الأنبياء.
قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) يعني التوراة وما فيها من الأدلة والبراهين أو المراد من البينات قوله تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) وهي العصا والسنون، واليد والدم والطوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) هذا توبيخ من الله تعالى لهم أي بعد النظر في الآيات الظاهرة أمام أعينكم والاتيان بها عبدتم العجل، وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم لجرمهم، ومأخذ هذا من حرف “ثم” وهي أبلغ من حرف العطف والواو في هذا الأمر، (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) لأنفسكم بعبادة العجل.
قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
تقدم الكلام في معنى الميثاق ورفع الطور وهو جبل في سيناء، ومعنى (وَاسْمَعُوا) أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قول الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب.
(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) قد يكونوا قالوا هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول، وهذا احتجاج عليهم في قولهم في الآية السابقة (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا).
(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي حُب العجل والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه عن تمكن أمر العمل في قلوبهم، وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها.
(قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يوبخهم أي قل لهم يا محمد بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم.
قوله تعالى (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
لما أدعت اليهود دعاوى باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه، كقوله تعالى (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)، وقوله (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وقالوا (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد: (إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ) والمقصود بها هنا الجنة (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في أقوالكم لأن من اعتقد أنه من اهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا لما يصير إليه من نعيم الجنة ويزول عنه من أذى الدنيا، فأحجموا عن تمني ذلك فرقا وخوفا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وحرصهم على الدنيا، ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم بقوله الحق (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تحقيقا لكذبهم، وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لو أن اليهود تمنو الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار”[1]، والله سبحانه صرفهم عن إظهار التمني على ألسنتهم ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
[1] – أخرجه النسائي (11061).