قوله تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

هذه الآية نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة، والنضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضا اخوان ثم افترقوا، فكانوا يقتتلون ثم يرتفع الحرب فيفدون اسراهم فعيرهم الله بذلك.

قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) والمعنى ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) معنى تظاهرون: تتعاونون، مشتق من الظهر لأن بعضهم يقوى بعضا فيكون له كالظهر أي تتعاونون عليهم، ومنه قوله تعالى (وكان الكافر على ربه ظهيرا).

قوله (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) الإثم هو الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم، والعدوان هو الافراط في الظلم والتجاوز فيه.

قوله (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى) اساري جمع أسير، والاسير مشتق من الاسار وهو الحبل الذي يشر به المحمل فوق الجمل، وسمى أسير لأنه يشد وثاقه ثم سمى كل أخيذ أسيرا وإن لم يربط.

قوله (تُفَادُوهُمْ) مأخوذ من الفداء، والفداء طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم، قوله (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) قال المفسرون: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة أي التعاون على العدوان، وفداء الاسرى، وأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى ،  فقال (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) وهو هنا التوراة وتكفرون ببعض.

قوله (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني عقوبة من يفعل ذلك منكم في الحياة الدنيا هو الخزي والخزي الذلة والهوان، وهو عقوبة دنيوية.

قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) وهو عقوبة أخروية.

قوله (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني من مخالفة أوامره سبحانه.

قوله تعالى (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ).

(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) يعني التوراة، (وَقَفَّيْنَا) أي أتبعنا، والتقفية معناه الاتباع والارداف مأخوذ من إتباع القفا وهو مؤخر العنق، نقول: استقفيته إذا جئت من خلفه، ومن سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام في الشعر، وهذه الآية مثل قوله تعالى (ثم أرسلنا رسلنا تترا) وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزوم أحكامها إلى عيسى عليه السلام.

(وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي الحجج والدلالات التي تدل على نبوته (وَأَيَّدْنَاهُ) أي قويناه، (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أختلف المفسرون في المراد بروح القدس، فبعضهم قال: روح القدس هو جبريل عليه السلام، وذهب بعضهم إلى أنه هو اسم الله الأعظم وهو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى وقيل المراد بروح القدس الانجيل سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) ومعنى القدس الطهارة.

(أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم) أي بما لا يوافقها ويلائمها (استكبرتم) عن اجابته احتقارا للرسول واستبعادا للرسالة والكلام موجه إلى بني إسرائيل، وأصل الهوى الميل إلى الشيء وسمى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل لفظ الهوى في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه.

(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام.

قوله تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ).

(وَقَالُوا) يعني اليهود (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي عليها أغطية والقلب الأغلف أي المستور عن الفهم والتمييز، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قراءة غلف بضم اللام أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، فرد الله عليهم (بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) أي أن السبب في نفورهم عن الايمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم بما سبق منهم على أنبيائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد ويقال للذئب لعين، والمعنى أن الله سبحانه أبعدهم من رحمته ومن توفيقه وهدايته ومن كل خير (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كما تقول: ما أقل ما يفعل فلان كذا، أي لا يفعل بتاتا، تقول العرب: مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئا.

Scroll to Top