(وقالوا) يعني اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قيل في سبب نزولها عدة روايات منها أن اليهود قالوا: إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما فقط عدد عبادتهم العجل فأكذبهم الله.
(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) يعني أقدمتم عملا صالحا فأمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم ثم ونجهم الله سبحانه وتعالى بقوله (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قوله تعالى (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
قوله تعالى (بَلَى) معناها ليس الأمر كما ذكرتم وهو رد لقولهم: لن تمسنا النار، و(بَلَى) معناها رد النفي وهناك قاعدة عند فقهاء اللغة أن نفي النفي أثبات فلو قال قائل الم تأخذ دينارا؟ فقلت نعم، لكان المعنى لا كم أخذ لأنك حققت النفي وما بعده فإذا قلت بلى، صار المعنى قد أخذت ومنه قوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) قالوا بلى ولو قالوا نعم لكفروا.
(مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) الراجح من أقوال المفسرين أن السيئة هي الشرك بالله ونظير ذلك قوله تعالى (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).
ودلت هذه الآية على شرطين للخلود في النار وهما الشرك وعدم التوبة منه لقوله تعالى وأحاطت به خطيئته، أنه لم يقلع عنها ولم يتب منها وهو منغمس فيها من جميع جوانبه.
ومثله قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال للرسول: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا اسأل عنه أحد بعدك قال: “قل آمنت بالله ثم استقم”، وهذا الحديث يفسر قوله تعالى في الخلود في الجنة (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) بالشرطين وهما الأيمان بالله والعمل بهذا الإيمان حتى يستحق أن يكون من استوفى الشرطين خالدا في الجنة.
قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ).
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) اختلف المفسرون في الميثاق الذي في هذه الآية فذهب بعضهم إلى أن المقصود هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر وقيل هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة انبيائهم وهذا الميثاق هو قوله تعالى (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) وعبادة الله هي إثبات توحيده وتصديق رسوله والعمل بما أنزل في كتبه.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا، وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد لأن النشأة الأولى من عند الله والنشئ الثاني هو التربية من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ).
والإحسان إلى الوالدين هو معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما وصلة أهل ودهما.
(وَذِي الْقُرْبَى) القربى بمعنى القرابة، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم.
(وَالْيَتَامَى) اليتامى جمع يتيم وأصل اليتيم الانفراد يقال صبي يتيم أي منفرد من أبيه ودرة يتيمة ليس لنا نظير، واليتيم ه ومن فقد أحد أبويه في صغره، والآية تدل على الرأفة باليتيم والحق على كفالته وحفظ ماله.
(وَالْمَسَاكِينِ) أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم وهذا يتضمن الحق على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء.
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) يعني وقولوا للناس قولا حسنا أي الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به، وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطاً طلقا مع البر والفاجر من غير مراهنة، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون (فقولا له قولا لينا) فالقائل ليس أفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد أمرهما الله تعالى باللين معه.
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) والكلام لبني إسرائيل بأن يحافظوا على صلاتهم وزكاتهم كما شرعها الله لهم وفيه كذلك تنبيه لمن بعدهم في المحافظة على هاتين العبادتين.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) الخطاب هنا لبني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم كما تولى أسلافهم في إعراضهم عن الحق مثلهم (إِلَّا قَلِيلًا) قال المفسرون كعبد الله بن سلام واصحابه من اليهود (وانتم معرضون) الاعراض والتولى معناهم واحد وقيل التولي بالجسم والاعراض بالقلب.
قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) اذكروا عهدكم الموثق مع ربكم، (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) المخاطبون بهذا بنو إسرائيل ويدخل منه المعنى من بعدهم، وسفك الدماء يعني صب الدماء يقال سفكت الدماء أي صببته وهو يحمل معنى القتل.
(وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) النفس مأخوذة من النفاسة فنفس الإنسان أشرف ما فيه (والديار) جمع دار وهو المنزل الذي فيه ابنية يقام فيها، وسميت دارا لدورها على سكانها كما سمى الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه.
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) من الإقرار أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي شهداء بقلوبكم على هذا الإقرار.
وهل يسفك أحد دمه ويخرج بنفسه من داره، المخاطب هنا هم بنو إسرائيل لأن ملتهم واحده وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل الله قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها، والله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسرقه ولا يدعه يسرق.
وهذا كله محرم كذلك في الإسلام، وقد يقع ذلك في الفتن والفوضى والاضطرابات التي تحدث في العالم ومن بينها ما يحدث بين المسلمين يقول تعالى (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) وظاهر الآية تفيد العموم فلا يجوز للإنسان أن يقتل غيره أو يقتل نفسه من جهد وبلاء يصيبه أو يخرج أحدا من داره أو يخرج نفسه من داره ويتيه في الصحراء ولا يسكن البيوت جهلا في دينه وسفها في حلمه وعقله.
وروى أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا ان يلبسوا المسوح وهي الخرق البالية وأن يهموا في الصحراء ولا يأووا البيوت ولا يأكلوا اللحم، ولا يغشوا النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده فقال لامرأته “ما حديث بلغني عن عثمان” وكرهت أن تفشى سر زوجها وأن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك فقال صلى الله عليه وسلم “قولي لعثمان: خلاف لسنتى أم على غير ملتي، إني أصلي وأنام واصوم وأفطر واغشى النساء وأوي البيوت وأكل اللحم فمن رغب عن سنيتي فليس مني” فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه.