(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي قضى عليهم بالذلة والمسكنة وألزموهما، مأخوذ من ضرب الحاكم على اليد أي حمل وألزم و(الذِّلَّةُ) الذل والصغار، (وَالْمَسْكَنَةُ) الفقر والخضوع وهي مأخوذة من السكون أي قلل الفقر حركته.
و(وَبَاءُوا) أي انقلبوا ورجعوا أي لزمهم ذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ومناجاته (ابوء بنعمتك علي) أي أقر بها وألزمها نفسي، وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا أي رجع به.
(ذَلِكَ) تعليل (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ) أي يكذبون بآيات الله أي بكتابه ومعجزات انبيائه، (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) هذا تعظيم للذين الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ولكن يقتل على الحق لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله، فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة للأنبياء وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم.
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي بسبب عصيانهم، والعصيان خلاف الطاعة والاعتداء: تجاوز الحد في كل شيء، وعرف في الظلم والمعاصي.
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا) أي صدقوا محمد صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِينَ هَادُوا) هم اليهود وسموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل وفي اللغة هاد يعني تاب، والهائد التائب (وَالنَّصَارَى) جمع نصراني وقيل مسرا بذلك نسبة لقرية تسمى ناصرة كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل عيسى الناصر، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى، وهناك من قال سموا بذلك لقول عيسى عليه السلام (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)، (وَالصَّابِئِينَ) جمع صائي، والصائي هو من خرج أو مال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ، فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب.
ولا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل الكتاب، ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم واكل طعامهم واختلف في الصابئين فقال بعض العلماء هم فرقة من أهل الكتاب وقال بعضهم: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وقال بعض العلماء: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، وجمهور الفقهاء على أنهم كفرة ليسوا من أهل الكتاب فلا تحل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.
(مَنْ آَمَنَ) من شرطية (آَمَنَ) أي صدق بالله واليوم الآخر، والمعنى أن هؤلاء اليهود والنصارى والصابئين لا يكون أجرهم عند ربهم ولا ينفى عنهم الخوف والحزن حتى يؤمنوا بالله وباليوم الآخر ويعملوا صالحا، وفي الايمان بالله واليوم الآخر اندراج الايمان بالرسل والكتب والبعث.
قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، قيل في سبب هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عنده الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين فجعل عليهم مثل الظلة وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق.
والطور اسم للجبل الذي كلم عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ) أي اعطيناكم (بِقُوَّةٍ) أي بجد واجتهاد وبنية وإخلاص وبالعمل بما فيه (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ولا تنسوه ولا تضيعوه، وهذا هو المقصود من كتب الله العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها فقط، وقد روى ابي سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوى إلى شيء منه”[1]، فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني كثرة اخذه بجد واجتهاد وإخلاص والعمل ما فيه يؤدي إلى التقوى حتما.
[1] – ضعيف النسائي: 3106