قوله تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) تولى: اعرض وادبر عن الشيء بالجسم ثم استعمل في الاعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد البرهان وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل (فلو لا فضل الله عليكم ورحمته) يعني فلو لا فضل الله تدارككم (وَرَحْمَتُهُ) أي لطفه وامهاله له، (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) والخسران النقصان، وقيل: فضله سبحانه: قبول التوبة، ورحمته العفو عنكم، ومعنى الفضل في اللغة: الزيادة على ما وجب، والإفضال: فعل ما لم يجب وهو يشمل الزيادة والخير والإحسان.

قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) علمتم معناه عرفتم اعيانهم واحكامهم والفرق بين المعرفة والعلم أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى والعلم متوجه إلى أحوال المسمى، فإذا قلت: عرفت زيدا فالمراد شخصه، وإذا قلت: علمت زيدا فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)، الاعتداء معناه التجاوز (فِي السَّبْتِ) معناه يوم السبت وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال، والسبت مأخوذ من السبت وهو المقطع أو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وكان الرجل منهم يأخذ خيطا ويضع فيه حبلا من لحاء الشجر ويلقيه في ذنب الحوت وفي الطرف الآخر من الخيط وتد ويتركه كذلك إلى يوم الأحد ثم كثر هذا العمل منهم حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق وأعلن الفسقة بصيده فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت، وقال الناهون: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: ان للناس لشأنا فعلو الجدار فنظروا فإذا هم قردة، (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أمرهم الله سبحانه أن يكونوا قردة وليس ذلك لهم وإنما هي إرادة الله تعالى ولكنه سبحانه سبب إليهم كونهم قردة جزاء على تجاوزهم واعتدائهم، والراجح عند جمهور العلماء أن الممسوخ لا ينسل وان القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام (خَاسِئِينَ) معناه مبعدين يقال: خسأته فخسأ أي أبعدته فبعد ومنه قوله تعالى (اخسئوا فيها) أي تباعدوا تباعد سخط.

قوله تعالى (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (فَجَعَلْنَاهَا) يعني هذه العقوبة، والأمة التي مسخت (نَكَالًا) أي زجرا ومنعا لمن بعدهم وأصل النكال والانكال القيود لأنها تمنع من يقيده، ويقال نكل عن الأمر إذا امتنع والتنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من ورائهم أي تجبنهم وتخونهم، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) أي لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) موعظة مأخوذة من الاتعاظ والوعظ: التذكير بالخير مما يرق له القلب، واللفظ يعم كل متعظ من كل امة وخاصة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تنهكوا من حرم الله عز وجل ما نهاهم عنه.

قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).

قال بعض المفسرين: إنما أمروا بذبح بقرة دون غيرها لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وأصل كلمة بقرة من بقر بطنه أي شقه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي زين العابدين لأنه رضي الله عنه لأنه بقر العلم وعرف أصله أي شقه.

(قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وذلك أنهم وجدوا قتيلا بينهم، واشتبه أمر قاتله عليهم ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول الله موسى بيننا، فأتوه وسألوه البيان، فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه، واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزوا؟ والهزء: اللعب والسخرية، فأجابهم موسى عليه السلام بقوله (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزؤ جهل، فاستعاذ منه عليه السلام لأنها صفة تنتفى عن الأنبياء، والجهل نقيض العلم، فاستعاذ من الجهل كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله تعالى.

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ).

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) هذا تعنيت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وما هي يعني ما حقيقتها وذاتها التي هي عليها.

(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) الفارض: المسن الكبيرة في السن أو هي التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك، لان معنى الفارض في اللغة الواسع والبكر: الصغيرة التي لم تحمل، والعوان: هي التي قد ولدت بطنا أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسن أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) هذا تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت ولكنهم لم يتركوا التعنت إذ قالوا (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) يعني أن لونها أصفر خالص لا لون آخر فيها، تسر الناظرين أي تعجب الناظر إليها كان شعاع الشمس يخرج من جلدها.

Scroll to Top