قوله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) الاستعانة هي طلب الاعانة والغوث من الله تعالى وأمر الله بان تكون وسيلتهم بالعون من الله أمرين الصبر والصلاة.

والصبر في اللغة معناه الحبس ويقال: قتل فلان صبرا أي امسك وحبس حتى اتلف وصبرت نفس على الشيء حبستها، فأمر الله سبحانه بني إسرائيل وغيرهم بالصبر على الطاعة وعن المعصية، ومعنى الصبر على الطاعة الاستمرار فيها ومعنى الصبر عن المعصية الانتهاء فورا منها والتخلص من شهواتها، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، قال الله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(وَالصَّلَاةِ) خص الله سبحانه الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، تنويها بذكرها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر أي أهمه أمر فزع إلى الصلاة، والصلاة على هذا التفسير هي الصلاة الشرعية، وقال جماعة من المفسرين أن معنى الصلاة هي الدعاء كما هو تعريفها في اللغة وهذا يشبه قول الله تعالى (آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء.

وقال بعض المفسرين: المراد بالصبر في هذه الآية الصوم وفيه قيل لشهر رمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا التفسير في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة.

(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) اختلف المفسرون في عود الضمير من قوله (وَإِنَّهَا) فقيل على الصلاة وحدها خاصة، لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم والصبر هنا الصوم، فالصلاة فيها سجن النفوس، والصوم إنما فيه منع الشهوة، فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات، فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب، ثم ينشط سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما منع، والمصلى يمتنع من جميع ذلك، فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال سبحانه (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) وقيل الضمير يعود على العبادة عموما التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة، وكبيرة معناه ثقيلة شاقة إلا على الخاشعين، فإنها خفيفة عليهم، والخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع فهؤلاء الخاشعون المتواضعون المتأدبون المتذللون لله حقا وصدقا هم الذين تكون العبادة عندهم من صوم وصلاة وسائر العبادات والاستمرار في الطاعات خفيفة سهلة يشتاقون إليها ولا تكون كبيرة وشاقة وثقيلة عليهم.

قوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ) هذا وصف للخاشعين، والظن هنا في قول في قول جمهور العلماء بمعنى اليقين ومن قوله تعالى (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) وقوله تعالى (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها.

(مُلَاقُو رَبِّهِمْ) أي جزاء ربهم، (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أي إلى ربهم أو جزاء ربهم (رَاجِعُونَ) إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى.

قوله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) سبق أن مد نعم الله على نبي إسرائيل أن انجاهم الله من آل فرعون وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم من الحجر الماء واستودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته.

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) بما جعل فيهم من الأنبياء، وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.

قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، (وَاتَّقُوا يَوْمًا) يريد سبحانه يوم القيامة بما فيه من عذاب وهول، ومعنى (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا تقول اجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به، فمعنى لا تجزئ لا تقضى ولا تغنى ولا تكفى إن لم يكن عليها شيء فإن كان عليها شيء فإنها تجزئ وتقضى وتغنى بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما في حديث ابي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فلتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وأن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه”.[1]

(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان ومضاعفة الاعداد الزوجية والوتر هو الواحد “لأعداد الفردية” ومنه الشفعة: لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة، وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة وغيره من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين إنما تكون من العصاة المذنبين الموجودين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين، وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقول (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) النفس الكافرة لا كل نفس، والمسلم يطلب شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله، لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة، وقال صلى الله عليه وسلم “لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته”[2].


[1] – أخرجه البخاري (6534).

[2] – صحيح الجامع ( 4297).

Scroll to Top