قوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

قوله تعالى (لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كرر – سبحانه – لفظ ظلموا ولم يضمره تعظيما للأمر وإظهارا لعصيانهم (رِجْزًا) الرجز هو النتن والقذر والرجز هو الرجس ومنه قوله تعالى (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أي نتنا إلى نتنهم، والرجز كذلك هو العذاب قال بعض المفسرين: كان طاعونا اهلك منهم سبعين الفا، (مِنَ السَّمَاءِ) الانزال من السماء هل هو مادي أو معنوي الأقرب انه معنوي بمعنى احاطة العذاب بهم وخاصة إذا كان من فوق فيكون اشد في العذاب (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم والفسق هو الخروج عن طاعة الله وعصيان أوامره سبحانه ومنه فسقت البيضة يعني خرج منها الفرخ.

قوله تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ).

(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) أي طلب السقي لقومه، فالسين الأولى للطلب والسؤال مثل استعلم واستنجد واستنصر ونحو ذلك (فَقُلْنَا) أي لموسى (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) العصا معروفة والحجر كذلك معروف (فَانْفَجَرَتْ) في الكلام حذف تقديره فضرب موسى فانفجرت، وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب، لكن أراد – سبحانه – أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد، وليرتب – سبحانه – على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد، والانفجار: الانشقاق ومنه انشق الفجر وانفجر الماء انفجارا: انفتح.

(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ) أي من الحجر (اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) العين من الأسماء المشتركة يقال عين الماء وعين الانسان وعين الشمس، واتفق المفسرون أن هذا الحجر كان حجرا منفصلا مربعا من جبل الطور فيه من كل جهة ثلاثة عيون إذا ضربه موسى، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون وعددها اثنتا عشرة عينا، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها والمشرب موضع الشرب، والاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها وكان كل سبط جمعا غفيرا.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) أي كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل، والذي هو وضعه لكم ربكم سبحانه لمعيشتكم، (وَلَا تَعْثَوْا) أي تفسدوا، والعيث شدة الفساد ومنه العثة وهي السوسة التي تلمس الصوف (مُفْسِدِينَ) كرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ، وفي هذه الكلمات إباحة النعم والنهى عن المعاصي.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر، واشتاقت طباعهم إلى ما بحرت عليه عادتهم من أكل البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم فقالوا: لن نصبر على طعام واحد، واعتدوا المن والسلوى طعاما واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون احدهما بالآخر فلذلك قالوا طعام واحد أو لتكرارهما في كل يوم فاعتبروه طعاما واحدا.

والطعام يطلق على ما يؤكل ويشرب، قال الله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) من لم يذقه من الشراب وربما خص بالطعام البر والتمر كما ورد في الحديث عن ابي سعيد الخدري قال: كما نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير والمقصود بالطعام البر والتمر، والطعم هو ما يؤديه الذوق يقال طعمه مر أو حلو أو حامض، والطعم يطلق أيضا على ما يشتهي منه يقال ليس له طعم، وما فلا بذي طعم إذا كان غثا.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) البقل: معروف وهو كل نبات ليس له ساق والقثاء معروف كذلك ومن ضمنها الخيار واليقطين مجموعة القثائيات، والفوم هو الثوم والثاء تبدل من الفاء، وقيل الفوم: الحنطة، والقول الأول أولى حتى يقابل البصل، والعدس والبصل معروفان.

(قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) الاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر، وأدنى مأخوذ من الدناءة بمعنى الأخس، أو مأخوذ من الدون أي الاحط، ومعنى الآية أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير، واختلف المفسرون في الوجوه التي جعلت المن والسلوى خيرا من هذه الأشياء التي طلبوها فذهب بعضهم إلى أن المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة امر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة فكانا خيرا من الذي طلبوه، وذهب بعض المفسرين إلى أن ما من الله عليهم من المن والسلوى أطيب وألذ من الذي سألوه كان ما سألوه أدنى من هذه الوجه وقال بعضهم: لما كان ما أعطوا من المن والسلوى لا كلفة فيه ولا تعب والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان ادنى من هذه الوجه، وقال آخرون: لما كان ما ينزل عليهم من المن والسلوى لأمر به في حله وخلوصه لنزوله من عند الله والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه كانت أدنى من هذا الوجه.

(اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) أي أنزلوا مصر أو اسكنوا مصر وهذا أمر معناه التعجيز كقوله تعالى (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم والمقصود بالمصر هنا أي بلد من البلاد وليس مصر فرعون بعينها، وهذا ما يقتضيه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية وبما تطاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام (فلسطين) بعد التيه وهذا هو الراجح، والمصر اصله في اللغة الحد ومصر البيت: حدود البيت (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) يعني إذا استطعتم أن تنزلوا بلدا فإن لكم ما طلبتم.

Scroll to Top