قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ).

 (وَإِذْ قُلْتُمْ) القائلون هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام، وذلك انهم لما اسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لا نصدقك حتى نرى الله جهرة أي علانية، أي نراه عيانا رؤية العين، واصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها، والمجاهرة بالمعاصي المظاهرة بها (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد، والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال سبحانه (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون)  والمصعوق هو المغشى عليه ومنه قوله تعالى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) أي مغشيا عليه، والصعقة الموت ومنه قوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) أي مات، وهذا المعنى هو الأقرب في هذه الآية (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي إلى حالكم وما نزل من الموت وآثار الصعقة، (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي أحييناكم بعد أن أمتناكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ما فعل بكم البعث بعد الموت واصل البعث إثارة الشيء عن محله يقال: بعثت الناقة، أثرتها أي حركتها، وكان موتهم موت عقوبة، ومنه قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ).

قوله تعالى (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )، أي جعلنا الغمام وهو السحاب لأنها تغم السماء أي تسدها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله فجعل الله لهم هذا السحاب يظلل عليهم من حر الشمس وهذا جرى في التيه  بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا) فعوقبوا في ذلك أربعين سنة يتيهون في الأرض في موضع يسمى الفحص في الأردن إلى رفح على حدود مصر، روى أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بالأمس منه الأرض وإذ كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام فأنزل الله عليهم المن والسلوى، وقالوا: من لنا من حر الشمس فظل عليهم الغمام والله أعلم.

قوله تعالى (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

(وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) اختلف المفسرون في المن ما هو فذهب أكثرهم إلى أن المن طل يقع من السماء وهو ندى شبيه بالعسل جامد فيه حلاوة، وقيل المن يتم جمع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “الكمأة من المن الذي انزل الله على بني إسرائيل” وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما انزل الله على بني إسرائيل أي ما خلقه الله لهم في التيه، والكمأة لا مؤنة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج.

(وَالسَّلْوَى) طائر يسمى السمان ممتلئ لحما، وقال الله لهم (كلو من طيبات ما رزقناكم)، الطيبات كلمة تجمع الحلال واللذيذ، (وَمَا ظَلَمُونَا) معناها بعد كل هذه النعم عصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي قابلوا هذه النعم بالمعاصي.

قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

(هَذِهِ الْقَرْيَةَ) أي المدينة سميت قرية أي اجتمعت وتقاربت بيوتها ومحالها ومنه قربت الماء في الحوض أي جمعته، وفيه قربت الضعيف أي جمعت له الطعام، وذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه القرية هي بيت المقدس، وهذه نعمة أخرى من النعم على بني إسرائيل وهي أن الله تعالى أباح لهم دخول اللدة وأزال عنهم التيه، (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) اباح لهم الأكل منها حيث أرادوا أي أكلا رغدا، والرغد هو الكثير الواسع، وكانت بيت المقدس ولا زالت ارضا مباركة كثيرة الفواكه والخضار (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) الباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف بباب حطة (سُجَّدًا) حالة كونكم منحنين ركوعا وقيل متواضعين خضوعا لا على هيئة معينة (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) يعني احطط عنا ذنوبنا حطة، أو قولوا مغفرة كما ورد في بعض الأحاديث أو قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال “قل خيرا”  (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) نستر ما اقترفتموه والخطايا جمع خطيئة (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي نزيدهم احسانا على الإحسان المتقدم عندهم، والمحسن هو من صحيح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه واقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره، وفي حديث جبريل عليه السلام: “ما الاحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت”.

قوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) فبدل الذين ظلموا من بني إسرائيل قولا غير الذي قيل لهم، وذلك أنه قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة، روى مسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب على استاههم يعني مقاعدهم وقالوا حبة في شعرة[1]، وكان قصد هؤلاء خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزءوا فزادوا حزما في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا.


[1] – أخرجه البخاري (3403)، ومسلم (3015).

Scroll to Top