هذه الآية الكريمة تعني أنّ شبه عيسى في خلقه من غير أب عند الله كشبه آدم الذي خلقه الله من تراب، ثم قال له: كن فكان من غير أب ولا ذكر ولا أنثى، فليس خلق الله عيسى من أمه من غير أب بأعجب من خلق آدم من غير ذكر ولا انثى فكان لحماً، وذكر المفسرون أنّ الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجاً لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نصارى نجران الذين حاجوه في عيسى.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يعني بذلك جل ثناؤه لنبيه: إنّه الذي أخبرتك به من خبر عيسى وأنّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال ربه: كن، هو الحق من ربك يقول هو الخبر الذي هو من عند ربك، فلا تكن من الممترين يعني فلا تكن من الشاكين في ذلك.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).
قوله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) يعني فمن جادلك يا محمد في المسيح عيسى بن مريم. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) يعني من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنّه عبد الله.
قوله: (فَقُلْ تَعَالَوْا) فقل لهم يا محمد (تَعَالَوْا) أي اطلب منهم القدوم والإقبال، وهذا الفعل تعال أو تعالوا، هو في أصل وضعه أمر من يتعالى إذا قصد العلو والارتفاع، ثم شاع استعماله حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور. قوله: (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)، (نَدْعُ) نحضر، (أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها، وهذا دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء، (وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ) والمراد بالنساء هنا كما قال الطاهر بن عاشور الزوجات وهذا معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة، قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)، وقال تتعالى (ونساء المؤمنين) يعني زوجاتهم، ووقوله (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) يعني أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي إيانا وإياكم، قوله: (ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) الابتهال في الأصل مأخوذة من البهل وهو اللعن يقال “بهله الله” أي لعنة، ثم استعمل الابتهال في الاجتهاد في الدعاء، وتسمى المباهلة أو الملاعنة، وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلا واثق بأنه على الحق، وهذه الآية من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا، وإنما جمع في المباهلة أو الملاعنة الأنبياء والنساء لأنه لما ظهرت من وفد نصارى نجران مكابرتهم في الحق وحب الدنيا، علم أن من هذه صنعته يكون أهله ونساؤه وأبناؤه أحب إليه من الحق كما ورد في قول شعيب عليه السلام (أرهطي أعزّ عليكم من الله) وأنه يخشى سوء العيش وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة.
وقوله: (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) يعني ندعوا الله أن يوقع اللعنة على الكاذبين، وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا، لكن هذه المباهلة لم تقع من وفد نجران بعد أن أعلمهم كبيرهم العقاب: أنهم إن باهلوا النبي اضطرم عليهم الوادي نارًا فإنّ محمداً نبي رسول، فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم ورضوا بالجزية.

