بعد أن أخبر الله جل وعلا عيسى عليه السلام بوفاته ورفعه إلى ربه ومطهره من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوا عيسى منصورين وظاهرين على الذين كفروا إلى يوم القيامة، وأنه – سبحانه – إليه المرجع والمآل وهو جل ثناؤه الذي يحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون، بيّن – سبحانه – بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني فأما الذين جحدوا بنوة عيسى وخالفوا ملته، وكذبوا بما جاء به عيسى من الحق، قوله: (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) يعني فإنّي أعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والذلة والمسكنة، وفي الآخرة بنار جهنم خالدين فيها أبداً.
: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) يعني وما لهم من عذاب الله مانع، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنّه – سبحانه – العزيز ذو الانتقام.
ثم قال – سبحانه – بعد ذلك (وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني وأما الذين آمنوا بك يا عيسى يقول صدقوك فأقروا بنبوتك، وبما جئتهم به من الحق من عندي (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني عملوا بما فرضت من فرائض على لسانك يا عيسى وشرعت من شرائعي. قوله: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) يعني فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملاً غير منقوص.
قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعني والله لا يحب من ظلم غيره حقاً له، أو وضع شيئًا في غير موضعه، فالله جل وعلا نفى عن نفسه بذلك أن يظلم عباده، فيجازي المسيء ممن كفر جزاء المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسن ممن آمن به واتبع أمره جزاء المسيئين ممن كفر به، وكذب رسله، وخالف أمره ونهيه، فقال: إني لا أحب الظالمين، فكيف أظلم خلقي وفي قوله – سبحانه – (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله.
ثم قال تعالى بعد ذلك: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ). قوله (ذَلِكَ) يعني هذه الأنباء التي أنبأ بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عن عيسى وأمه مريم وأم مريم، وزكريا ويحيى، وما قص من أمر الحواريين، واليهود من بني إسرائيل. قوله: (نَتْلُوهُ عَليْكَ) نقرؤه عليك يا محمد على لسان جبريل بوحينا إليك. قوله: (مِنَ الْآَيَاتِ) يعني بالآيات هنا العبر والحجج، على من حاجك من وفد نصارى نجران ويهود بني إسرائيل الذين كذبوك يا محمد، وكذبوا ما جئتهم به من الحق عندي، وقوله: (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) يعني بالذكر هنا القرآن وقوله: (الْحَكِيمِ) وصف للقرآن ومعناه ذو الحكمة الفاصلة بين الحق والباطل، والقرآن هو القاطع الفاصل الحق الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى عليه السلام وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلن خبراً غيره.

