يقول تعالى في سورة البقرة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الانفاق في سبيل الله على العموم (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) بين الله في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى لأن المن والاذى مبطلان لثواب الصدقة، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله سوى أن يراعي استحقاقه، يقول تعالى (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله وإنما تقبل الصدقة ما كان عطاؤه الله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله.

قوله (مَنًّا وَلَا أَذًى) المن معناه ذكر النعمة على معنى التعديد لها كأن يقول: قد احسنت إليك وأعطيتك وأنقذتك وأنعشتك، واعتبر العلماء المن من الكبائر لما ورد في سنن السلف، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجل تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالدية والمدمن الخمر والمنان بما أعطى”[1] ومعنى الأذى السب والتشكي مثل أن يقول لمن يعطيه ما اشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا.

قوله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني من أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى فقد تضمن الله له بالأجر هو الجنة ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل به عند ربه ونفى عنه الحزن على ما سلف من دنياه لأنه يغتبط بآخرته وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله.

ثم قال الله تعالى بعد ذلك (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) قوله (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) القول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجيه بما عند الله خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها، قال صلى الله عليه وسلم “الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق”[2] فيتلقى السائل بالبشر والترحيب ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا أن منع.

قوله (وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) يعني أن تفعل فعلا يؤدي إلى مغفرة الله فيكون غفران الله بهذا الفعل خير من الصدقة التي تمن بها.

قوله (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أخبر الله تعالى عن غناه المطلق أنه سبحانه غني عن صدقة العباد وإنما أمر بها ليثيبهم عليها، وأخبر جل وعز عن حلمه ومعنى الحلم التريث وعدم التعجل فالله سبحانه لا يعاجل بالعقوبة إذا عاد من يعطي الصدقة عن منه وأذاه.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).

قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) يعني صدقوا بالله ورسوله، قوله (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ) يعني لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمن والاذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله رئاء الناس، وهو مراءاته إياهم بعمله بأن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله تعالى، فيحمدونه عليه، وهو مريد به غير الله، ولا طالب منه الثواب، وإنما ينفق ماله ليقول عنه الناس: هو سخي كريم، أو هو رجل صالح، فيحسنوا بالثناء عليه، والناس لا يعلمون ما خفي من نيته في إنفاقه فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى.

قوله (وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) يعني: ولا يصدق بوحدانية الله وربوبيته ولا أنه مبعوث بعد مماته وهذه صفة المنافق.

قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) يعني فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر مثل صفوان هو الحجارة الملساء ومنه الصفا والصفاة (عَلَيْهِ تُرَابٌ) يعني على الصفوان تراب فأصاب الصفوان وابل وهو المطر الشديد العظيم (فَتَرَكَهُ صَلْدًا) يعني فترك الوابل الصفوان صلدا، والصلد من الحجارة الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، والصلد من الأراضي ما لا ينبت فيه شيء.

قوله (لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) يعني انظر أيها المنان بما أعطيت وأيها المؤذي بعطيتك إلى هذا المثل الذي ضربه الله لك وأنت ترى إذا سقط المطر الشديد هل يدع من التراب على الصفوان شيئا، فكذلك منك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئا (لَا يَقْدِرُونَ) يعني الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس لا يقدرون على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا لأنهم لم يعملوا لمعادهم ولا لطلب ما عند الله في الأخرة، ولكنهم عملوه فقط حتى يحمدهم الناس فحظهم من أعمالهم ما أرادوه.

قوله (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) يعني لا يسددهم ولا يوفقهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها وهم للباطل عليها مؤثرون وهذا تنبيه للمؤمنين لكي لا يكونوا كالمنافقين.

ومن اللطائف قول العرب للذي يمن بصدقته: يد سوداء، ولمن يعطي من غير مسألة: يد بيضاء، ولمن يعطي عن مسألة: يد خضراء، ومن الشعر قول بعض الشعراء:

أفسدت بالمن ما اسديت من حسن

  ليس الكريم إذا اسدى بمنان


[1] – أخرجه النسائي (2562)، وأحمد (6180).

[2] – أخرجه البخاري (2989)، ومسلم (1009).

Scroll to Top