هذه الآية إشارة إلى ما وقع من عبد الله بن جحش واصحابه حينما قتل أحدهم وهو واقد بن عبد الله التميمي قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه وفي الاسرين فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بالآية السابقة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) وفرج عنهم وأخبر سبحانه أن لهم ثواب من هاجر وغزا فالإشارة إليهم في هذه الآية في قوله (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا) ثم إن هذه الآية ما فيه في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل.
قوله (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا) أي الذين صدقوا بالله ورسوله وبما جاء به، وقوله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) يعني الذين هجروا مساكنة المشركين في بلادهم ومجاورتهم في ديارهم فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها، وهي مأخوذة من الهجرة ومعناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، والهجر ضد الوصل يقال هجر فلان فلانا، للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئا لأمر كرهه منه، وإنما سمى المهاجرون من أصحاب رسول الله مهاجرين لأنهم هجروا دورهم ومنازلهم كراهة منهم النزول بين المشركين وفي سلطانهم بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم، إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.
قوله (وَجَاهَدُوا) يعني قاتلوا وحاربوا، واصل المجاهدة المفاعلة من قول الرجل قد جهد فلان فلانا إذا كربه وشق عليه وبذل وسعه ومجهوده، فإذا كان الفعل من أثنين كل واحد يكابد من صاحبه شدة ومشقة مثل فلان يجاهد فلانا، وقوله (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) السبيل هو الطريق، والمقصود هنا دين الله ومنهجه وعزة شريعته.
قوله (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ) أي يطمعون أن يرحمهم الله ويتقربون إليه، وإنما قال (يرجون) وفي هذا مدح لهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين: أحدهما: لا يدري بما يختم له، والثاني: لئلا يتكل على عمله، والرجاء ابدا معه خوف كما أن الخوف معه رجاء، والرجاء من الأمل ممدود يقال: رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة يقال: ما أتيتك إلا رجاوة الخير وترجيته ويقال: ومالي في فلان رجيه.
وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف قال الله تعالى (مالكم لا ترجون لله وقارا) أي لا تخافون عظمة الله، قوله (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور أي سائر ذنوب عباده بعفوه عنها ورحيم متفضل عليهم بالرحمة.
والله سبحانه وتعالى في هذه الآية أثنى على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء وجعلهم أهل الرجاء وهم خيار هذه الآمة رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
قوله (يَسْأَلُونَكَ) السائلون هم المؤمنون (عَنِ الْخَمْرِ) الخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومن خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره ومنه حديث “خمروا آنيتكم” أي غطوها فالخمر تخمر العقل أي تغطيه وتستره (وَالْمَيْسِرِ) مأخوذ من اليسر وهو جوب الشيء لصاحبه يقال: يسر لي كذا إذا وجب وهو القمار قال ابن عباس: كان الرجل يخاطر الرجل على أهله وماله فإيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله.
قوله (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) قل يا محمد جوابا عن سؤالهم فيهما يعني الخمر والميسر (إِثْمٌ كَبِيرٌ) إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله إلى غير ذلك وشاربها يصير ضحكة للعقلاء وأما الميسر وهو القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل.
قوله تعالى (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أما في الخمر فربح التجارة فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب.
قوله تعالى (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) أعلمنا ربنا جل وعز شأنه إن إثم الخمر والميسر أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم والمنافع قبل التحريم والخمر والميسر من الكبائر.
قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى في هذه السورة (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) سؤالا عن النفقة إلى من تصرف أجاب الله تعالى في تلك الآية (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل…) وقد شرحنا تلك الآية، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الانفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح كما شرحنا فإنه لما نزل (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين….) قال كم أنفق فنزل قوله تعالى (قُلِ الْعَفْوَ) يعني قل يا محمد أنفقوا العفو والعفو: ما تسهل وتيسر وفضل من المال ولم يشق على القلب إخراجه، والمعنى: انفقوا ما فضل عن حوائجكم وكم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة على غيركم.
قوله تعالى (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون) يعني كذلك يوضح الله لكم الحجج والأدلة في أمر النفقة لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى أو لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وتتفكرون في إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وكذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) انطلق من كان عنده يتمي فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه.
قوله (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) يعني لهم يا محمد إن تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم من غير أخذ شيء من أموالهم وغير أخذ عوض من أموالهم على اصلاحكم كل ذلك لهم خير لكم عند الله وأعظم لكم أجرا نمالكم في ذلك من الأجر والثواب، وخير لليتامى في أموالهم في عاجل دنياهم لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم.
قوله (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) يعني وإن تشاركوهم بأموالكم أموالكم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم فتضموا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم واسبابهم وإصلاح أموالهم فهم اخوانكم، والاخوان يعين بعضهم بعضا نذر المال يعين ذا الفاقة وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعيف.
قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) يعني أن ربكم وإن اذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم، وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك من الله العقوبة التي لا قبل لكم بها، فإنه سبحانه يعلم من خالط منكم يتيمه فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ما الذي يقصد مخالطته إياه إفساد مالة وأكله بالباطل أم إصلاحه وتعميره لأنه لا يخفى عليه منه شيء ويعلم أيكم المريد اصلاح مال اليتيم من المريد إفساده.
قوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) يعني لو شاء الله لأحرجكم فضيق عليكم ولكنه وسع ويسر فقال (ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) والعنت هو المشقة والضيق.
قوله (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عزيز أي لا يمتنع عليه شيء (حَكِيمٌ) يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه ويضع الشيء في موضعه اللائق به.


