قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) لما ذكر الله الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله (وأتموا الحج والعمرة لله) بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، واما الحج فيقع في السنة مرة فلا يكون في غير هذه الأشهر، وأشهر الحج شوال وذو القعدة وشهر ذو الحجة كله وهناك قول بان ذو الحجة وليس كله، قوله (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي ألزم نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا وبالإحرام فعلا ظاهرا وبالتلبية نطقا مسموعا، قوله (فَلَا رَفَثَ) أي فلا جماع لان الجماع منه للحج ما دام محرما (وَلَا فُسُوقَ) الفسوق الاتيان بمعاص الله عز وجل وهي كلمة جامعة للمعصي (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) واختلف في معنى الجدال فقيل معناه السباب بأن تغضب اخيك فينتهي إلى السباب، قوله (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) يعني أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازة إنما تقع من العالم بالشيء وفي هذا تحريض وحث على حسن الكلام وعلى البر والتقوى بدل الفحش والفسوق والجدال، قوله (وَتَزَوَّدُوا) أمر باتخاذ الزاد الحس في الحج مع الزاد الإيماني (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) اخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات التي نهى الله عنها فأمرهم أن يضموا إلى التزود بالطعام التقوى والعمل الصالح خاصة في هذه المرحلة الايمانية، (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) خص أولي الالباب بالخطاب، وإن كان الأمر يعم الكل، لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم قابلوا أوامره والناهضون بها، والالباب جمع لب، ولب كل شيء خالصه ولذلك قيل للعقل لب، قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)، قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) يعني ليس عليكم إثم الجناح الاثم في أن تبتغوا فضل الله، وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال تعالى في سورة الجمعة (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) فالله سبحانه حرم في الحج الرفث الفسوق والجدال ورخص في التجارة، (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) أفضتم أي اندفعتم ومنه فاض الاناء إذا امتلأ حتى انصب عن جوانبه (عَرَفَاتٍ) الموقع الذي يجتمع فيه الحجاج إما اخذا من التعارف بينهم أو من العرف وهو الطيب فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الدعاء فلذلك سميت عرفات، ومن معانيها الصبر والاحتمال يقال رجال عارف إذا كان صابرا خاشعا فأهل عرفة صابرون خاشعون متذللون لله لإقامة هذه العبادة، قوله (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) الراجح انه مزدلفة أي اذكروا الله بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام، ويسمى جمعا لأنه مجمع فيها بين المغرب والعشاء وسميت بمزدلفة لأن الحجاج يزدلفون إلى الله أي يتقربون إلى الله بالوقوف فيها ومعنى مشعر مأخوذ من الشعائر وهو التلاوة لأن مزدلفة معلم للحج والصلاة والمبيت به والدعاء عنده من شعائر الحج ووصف بالحرام لحرمته، (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) كرر الأمر تأكيدا كما تقل أرم أرم، والذكر الأول امر عند المشعر الحرام والثاني امر بالذكر على حكم الإخلاص وتحديد النعمة والأمر بالشكر عليها، ثم ذكرهم سبحانه بحال ضلالهم ليظهر قدر انعامه عليهم (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي قبل الهداية بالقرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت هذه الآية، بطائفة من أهل مكة قبل الإسلام كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة وإنما يقفون بمزدلفة، وهي من الحرم وكانوا يقولون: نحن قطين الله فينبغي لنا أن نعظم الحرم ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة موقف إبراهيم عليه ال سلام لا يخرجون من الحرم ويقفون بمزدلفة ويفيضون منها ويقف الناس بعرفة فقيل لهم: أفيضوا مع جملة الناس (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أما من قبلنكم هذه او أن هذه المواطن هي مواطن الاستغفار ومساقط الرحمة ومظان قبول الدعاء، قوله تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) المناسك هي شعائر الحج وقيل هي الذبائح وإراقة الدماء والمعنى فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بأنعامه عندكم وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتفاخر بالآباء وتذكر أيام اسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك فنزلت هذه الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية وهناك قول لابن عباس رضي الله عنهما معنى الآية أذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم.

يقول تعالى في آيات الحج من سورة البقرة (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق وتسمى أيام منى وهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والمخاطب بهذا الذكر عند الفقهاء كل أحد سواء أكان حاجا أم غير حاج والمراد بالذكر التكبير وخصوصا في أوقات الصلوات فيكبر عند انقضاء كل صلاة – كان المصلي وحده أو في جماعة تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام اقتداء بالسلف رضي الله عنهم والتكبير في هذه الأيام المعدودات سنة وليست واجبا.

قوله (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) يعني فمن تعجل في يومين أيام التشريق فنفر من منى في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نفره وتعجله في النفر، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره لمن اتقى الله في حجه سواء المتعجل أو المتأخر – فاجتنب في حجه ما أمره الله باجتنابه وفعل فيه ما أمره الله بفعله.

قوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يعني – سبحانه وتعالى – بذلك اتقوا الله أيها المؤمنون فيما فرض عليكم من فرائضه فخافوه في تضييعها والتفريط فيها، وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككم أن ترتكبوه وأعلموا أنكم إليه تحشرون يوم القيامة فمجازيكم هو بأعمالكم المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وموف كل نفس ما عملت.

Scroll to Top