قوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) أصل الذكر التنبه بالقلب لله تعالى والتيقظ له، وسمى الذكر باللسان ذكرا لأنه دلاله على الذكر القلبي، ومعنى الآية أذكروني بالطاعة اذكركم بالثواب والمغفرة، قال بعض السلف إن الله ذاكر من ذكره وزائد من شكره، ومعذب من كفره.

(وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) معنى الشكر في اللغة الظهور، وهو معرفة الإحسان والتحدث به فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات، والعرب تقول شكرتك وشكرت لك ونصحتك ونصحت لك.

(وَلَا تَكْفُرُونِ) أي لا تجحدوا نعمتي وإحساني إليكم فالكفر المقصود هنا ستر النعمة لا التكذيب.

يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

في هذه الآية حض من الله تعالى ذكره على طاعته فيناديهم جل وعلا بأن يطلبوا الاعانة لأن السين والتاء للطلب بالصبر والصلاة، والصبر في اللغة الحبس، وصبرت نفسي على الشيء حبستها فأمر سبحانه بالصبر على الطاعة والصبر عن المعاصي، يقال فلان صابر عن المعاصي، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، وحض الله سبحانه الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة، وقيل إن المراد بالصلاة هنا الدعاء على تعريفها في اللغة فتكون الآية مشابهة لقوله تعالى (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله) لأن الثبات هو الصبر والذكر هو الدعاء وقال بعض المفسرين الصبر في هذه الآية الصوم ومن قيل لرمضان: شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة.

(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي على القيام بأداء فرائضه وترك معاصيه، ينصرهم ويرعاهم حتى يظفروا بما طلبوا وأقلوا من قبل الله تعالى.

يقول الله تعالى (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ).

يعني أيها المؤمنون لا تقولوا عن الذين يقتلون في سبيل الله انهم أموات، لأن الميت من خلق الله من سلبت حياته وأعدمت حواسه فلا يلتذ بلذة ولا يدرك نعيما (بل أحياء) إن من قتل منكم في سبيل الله أحياء عند الله في حياة ونعيم وعيش هنيء فرحين بما آتاهم الله من فضله وحباهم به من كرامته وخصهم سبحانه بأنهم مرزوقون من مأكل الجنة ومطاعمها في برزخهم بعثهم، منعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر من لذيذ مطاعمها الذي يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه، فذلك هو الفضيلة التي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم والفائدة التي أفاد المؤمنين بالخير عمن يقتل في سبيله، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله) وقد وردت أحاديث وآثار عن حياة من يقتل في سبيل الله منها أنهم في قبة خضراء أو في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا.

(وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء وإنما تعلمون ذلك بإخباركم عنهم، والمقصود بذكر الخبر عن حياة من قتل في سبيل الله إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة ولذلك نرى خلقه عن أن يقولوا عنهم أنهم موتى.

يقول تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصل البلاء المحنة، والمعنى لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، وقيل إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق وليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفيه كذلك تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.

(بِشَيْءٍ) هو لفظ مفرد ومعناه الجمع أي شيء من هذا وشيء من هذا فاكتفى بالأول يجازا.

(مِنَ الْخَوْفِ) أي خوف العدد والفزع في القتال، وقيل الخوف من الله (وَالْجُوعِ) يعني المجاعة بالجدب والقحط في قول ابن عباس وقيل هو الجوع في شهر رمضان (ونقص من الْأَمْوَالِ) بسبب الاشتغال بقتال الكفار أو بالجوائح المتلفة وقيل بالزكاة المفروضة، (وَالْأَنْفُسِ) بالقتل والموت في الجهاد أو بسبب الأمراض (وَالثَّمَرَاتِ) المراد قلة النبات وانقطاع البركات وقيل المراد موت الأولاد وولد الرجل ثمرة قلبه.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي بشرهم بالثواب على الصبر، وثواب الصبر غير مقدر، ولكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، كما روى البخاري عن انس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”[1] أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي تعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإن يدل على قوة القلب وتثبيته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر بعد ذلك، والصبر صبران: صبر عن معصية الله فهذا مجاهد وصبر على طاعة الله فهذا عابد، فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات.


[1] – : صحيح البخاري (7154).

Scroll to Top