قوله تعالى (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

(مَا يَوَدُّ) أي يتمنى الذين كفروا من اليهود ومعهم في ذلك المشركين (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) ، والخير عام في المنفعة الدنيوية والأخروية والمراد من ذلك النبوة ولذلك قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه (يختص برحمته) أي نبوته خص بها محمدا صلى الله عليه وسلم، وقيل الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عبادة قديما وحديثا ورحمة الله لعباده انعامه عليهم وعفوه لهم (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي صاحب الفضل العظيم لأن (ذُو) بمعنى صاحب.

قوله تعالى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، سبب نزول هذه الآية أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله هذه الآية.

ومعنى النسخ في كلام العرب على وجهين: الأول: النقل كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا المعنى يكون القرآن كله منسوخا من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، الوجه الثاني: الإبطال وإلازاله، وهي المقصود من الآية، وهو إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبت وحلت محله، إذا النسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بآية أخرى.

قوله تعالى (أَوْ نُنْسِهَا) أي نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم من قولهم: نسأت هذا الأمر إذا أخرته ويقولون: نسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك إذا أخره.

(نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) المعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الآية الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) ألم من حروف الاستفهام، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني ألم تعلم يا محمد والاستفهام كذلك موجه إلى كل من يتأتى منه الجواب (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أي بالإيجاد والاختراع والملك والسلطان ونفوذ الأمر والإرادة، أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن الله سلطان السموات والأرض (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي مالكم سوى الله أو مالكم بعد الله (مِنْ وَلِيٍّ) من وليت أمر فلان أي قمت بشأنه ومنه ولي العهد أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين، و(وَلَا نَصِيرٍ) مأخوذة من النصر والتأييد والمساندة، لا يقوم بشأنكم ومساندتكم وتأييدكم ونصركم إلا الله.

قوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

(أَمْ تُرِيدُونَ) يوجه الله سبحانه إلى مشركي العرب توبيخا يعني بل تريدون أن تسألوا رسولكم المرسل إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما سأل بنو إسرائيل رسولهم وهو موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة، لأن المشركين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالله والملائكة قبيلا، وسألوه أن يجعل لم جبل الصفا ذهبا، (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي من يترك الإيمان إلى الكفر فقد تاه عن الطريق الصحيح وهو الإيمان (سَوَاءَ السَّبِيلِ) السواء من كل شيء الوسط ومن قوله تعالى (في سواء الجحيم) أي في وسط الجحيم.

قوله تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(وَدَّ) يعني تمنى (كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هم اليهود (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي من تلقاء أنفسهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، والحسد نوعان مذموم ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أولا وهذا النوع هو الذي ذمة الله تعالى في كتابه بقوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) وإنما كان مذموما لأن فيه تسفيه الحق سبحانه وانه أنعم على من لا يستحق، وأما الحسد المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في أثنتين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار” [1]وهذا الحسد المحمود معناه الغبطة وكذلك ترجم عليه البخاري رحمة الله “باب الاعتباط في العلم والحكمة وحقيقة الغبطة أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من خير والنعمة ولا يزول عنه خيره”.

(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أي من بعد ما تبين الحق لهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي جاء به.

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو هو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح هو إزالة أثر الذنب من النفس، تقول: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذى، حتى أن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم.

(حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) يعني قتل بني قريظة وجلاء بني النضير (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).


[1] – أخرجه البخاري (5025)، ومسلم (815).

Scroll to Top