تعنتوا للمرة الرابعة ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان، وأرادوا تحديدا دقيقا ولذلك قالوا (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) لأن وجوه البقر تتشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنا يقطع الليل تأتي كوجوه البقر، يريد أنها يشبه بعضها بعضا، وقوله تعالى (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) استثناء منهم وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنا به وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا”.
قوله تعالى (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ).
(لَا ذَلُولٌ) يعني لم يذللها العمل أي هي بقرة صعبة لم تذلل بالعمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) إثارة الأرض تحريكها وبحثها وحرثها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم “أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين”، أي ابحثوا فيه ومنه قوله تعالى (وأثاروا الأرض) أي قلبوها للزراعة، (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي لا تستعمل لسقي ما حرث للزراعة، وكانت هذه البقرة وحشية، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث (مُسَلَّمَةٌ) أي سليمة من العرج وسائر العيوب لا أثر فيها للعمل (لَا شِيَةَ فِيهَا) أي ليس فيها لون يخالف لوها هي صفراء كلها لا بياض ولا حمرة ولا سواد ومنه أخذ الواشي أي النمام لأنه يغير الكلام ويلونه ويزيد منه ما شاء.
(قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) الآن تعبير عن الوقت في حينه مثل قولك “أنت إلى الآن هنا” والمعنى إلى هذا الوقت و(جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي بينت الحق في تفاصيلها (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) كاد أن يفعل بمعنى عسى أن يفعل، وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
معنى (فَادَّارَأْتُمْ) أي اختلفتم وتنازعتم في معرفة قاتلة، ثم أتوا موسى يختصمون إليه، والله سبحانه يريد اخراج ما تكتمونه أي تحبسونه في صدوركم ولا تبدونه.
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يعني أضربوا الميت ببعض البقرة المذبوحة، بعض المفسرين قالوا: ضرب بلسان البقرة لأنه آلة الكلام وقيل بعظم من عظامها، فلما ضرب به حيا واخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان وهذه كانت معجزة من عند الله تعالى (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى) أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحي كل من مات (وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ) أي علاماته وقدرته (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا أي تمتنعون من عصيانه، وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه.
قوله تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) القسوة: الصلابة والشدة واليبس، وهي عبارة عن خلو القلوب من الانابة والاذعان لآيات الله تعالى، والمراد قلوب ورثة القتيل من بني إسرائيل لأنهم حين حي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا كذب من بعد ما رأوا هذه الآية العظيمة فلم يكونوا قط اعمى قلبا ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) يعني أن قلوبهم إذا شبهتموها بالحجارة فأنتم صائبون أو شبهتموها بأشد من الحجارة صلابة ويبسا فأنتم كذلك صائبون.
قوله تعالى (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
قوله تعالى (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) هذه عبارة عن العيون التي تنفجر فتكون الأنهار، وهناك بعض الأحجار تتشقق ويكون منها الماء ولا تصير انهارا.
وقوله تعالى (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) يعني إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم بخروج الماء منها ولسقوطها، قال بعض المفسرين: ما سقط حجر من رأس جبال، ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله بدليل قول الله تعالى (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
قوله (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، يقول تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).